ألقت الخلافات السياسية في الشرق بظلالها على شمال أفريقيا في الغرب، وشاء الله أن تقوم في أقصى المغرب دولة إسلامية مستقلة، سجلت نهضة حضارية وعلمية متميزة لا تزال آثارها باقية إلى اليوم بعد أن شغلت محور التاريخ لنحو 130 سنة مرت كجميع الدول في هذه الأرض بطور تأسيس وطور قوة وطور انهيار.
ومن المهم التنبيه إلى أنه من الأخطاء الشائعة القول بأن دولة الأدارسة دولة شيعية كما تروج له بعض المصادر، لكون مؤسسيها وأمرائها كانوا من آل البيت. والحقيقة كما ساق ذلك صاحب كتاب “معالم تاريخ المغرب والأندلس” أن الأدارسة رغم علويتهم لم يكونوا شيعيين، بل لم يكن أحد من رجال دولة الأدارسة أو أتباعهم شيعيًا، فقد كانوا سُنيين، لا يعرفون الآراء الشيعية التي شاعت على أيام الدولة العبيدية كما لم يعرفوا في بلادهم غير الفقه السني المالكي. والوصف الصحيح لهذه الدولة هو أنها كانت دولة علوية هاشمية، وهي أول تجربة نجح فيها آل البيت في إقامة دولة لأنفسهم.
الصراع بين الهاشميين
بعد الحكم الراشدي دخل العالم الإسلامي في مرحلة الملك العضوض، يتوارث الخلفاء الملك في الأسرة الواحدة على أساس النسب لا الكفاءة، فرافق تداول الملك بهذه الطريقة الكثير من الخلافات والمنافسات الشريفة وغير الشريفة، ولعل أبرز ما أفرزه ذلك الصراع بين الهاشميين الذين انقسموا إلى علويين وعباسيين؛ أي إلى آل علي وآل عباس رضي الله عنهم.
وتطور الصراع ليأخذ أشكالًا أكثر جدية وعنفًا، باندلاع الثورات العلوية المسلحة والتي منها: ثورة محمد بن عبد الله (النفس الزكية) في المدينة سنة 145هـ، وثورة إبراهيم بن عبد الله (شقيق محمد) في البصرة سنة 145هـ، وثورة الحسن بن علي في الحجاز (مكة والمدينة) سنة 169هـ، لكنها ثورات باءت جميعها بالفشل أمام التخطيط والحزم العباسي لوأدها.
مؤسس الدولة الإدريسية والثورات على العباسيين
لقد شاء الله أن يكتب لأحد العلويين الثائرين على العباسيين مصيرًا مختلفًا عن القتل أو السجن أو الإخضاع، إنه إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. أمه عاتكة بنت عبد الملك بن الحرث الشاعر خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي، ولد في المدينة المنورة في أوج الخلاف بين العباسيين والعلويين.
واصطف إدريس إلى جانب أخيه محمد بن عبد الله بن الحسن أمام الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور الذي كانت خشيته كبيرة من طموح العلويين وخاصة شقيق إدريس لكون الأخير كان يردد بأن أبا جعفر قد عقد له البيعة أمام عدد من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم في اجتماع لهم بالأبواء بعد مقتل الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
جدّ أبو جعفر في مطاردة محمد واستخدم في سبيل اعتقاله كل وسيلة وضغط بما فيه اعتقال والده عبد الله بن الحسن مع عدد من العلويين. ولما ضاقت السبل بمحمد بن عبد الله أعلن الثورة على المنصور في عام 145هـ (762م)، ودعا أهل المدينة لبيعته، فاستفتوا الإمام مالك بن أنس في ذلك فقال: إنما بايعتم المنصور مكرهين فلا بيعة له في أعناقكم. فلما بلغ المنصور خبر الثورة، كتب لمحمد كتاب أمان واعدًا إياه بحسن العهد إن رجع لطاعته، فأجابه محمد بنفس الأمر أي بحسن العهد إن أطاعه.
وتبادلا الرسائل التي تؤكد موقف كلٍّ منهما، ثم استولى محمد على الحجاز وجعل المدينة مركزًا له، وعين ولاته في مكة واليمن والشام، فأرسل المنصور جيشًا لقتاله بقيادة عيسى بن موسى الذي حاصر المدينة.
من جانبه حفر محمد خندقًا حول المدينة وطلب النجدة من مكة واليمن، لكن قبل أن تصله اندلع قتال شديد انتهى بمقتله في عام 145هـ (762م)، وأعقبت هذه الثورة ثورة أخرى قامت في البصرة من إبراهيم بن عبد الله شقيق محمد، في نفس العام، لكنه قتل أيضًا.
وبعد فشل هذه الثورات أمعن أبو جعفر المنصور في اضطهاد العلويين، فمنهم من قضى نحبه في السجن ومنهم من صودرت أملاكه، أما من بلغ الحلم فتم نفيه من الحجاز إلى العراق.
ثورة فاشلة أخرى
لم تفتر عزيمة العلويين رغم خسائرهم أمام العباسيين، فقامت في عصر الخليفة الهادي ثورة جديدة هذه المرة بقيادة الحسين بن علي بن الحسن الذي استنفر أبناء عبد الله بن الحسن؛ يحيى وسليمان وإدريس (بطل قصتنا). فلما انتشر خبره سارع خالد البربري مع مئتي جندي لمهاجمتهم لكنهم تراجعوا أمام تصدى إدريس ويحيى لهم. ليتجدد القتال في اليوم التالي في معركة تاريخية عنيفة، وقعت فيما بين رحبة دار الفضل والزوراء، أدت إلى مقتل عدد كبير من الطرفين، ولم تكتب الغلبة لأحد، كما رفض بعض القادة العباسيين قتال الحسين مثل القائد العباسي مبارك التركي، لكنه دفع ثمن ذلك بتجريده من صلاحياته وأمواله، ثم جعله الخليفة العباسي سائس دواب.
أما أمر الحسين فانتهى بفخ ثم مجزرة بشعة في عام 169هـ (786م) حيث قتل مع أغلب أنصاره، وقطعت أكثر من مئة رأس بقيت جثثهم على الثرى ثلاثة أيام لم يأذن العباسيون بدفنها حتى أكلتها الوحوش والطيور.
نجاة إدريس من العباسيين
دفع هذا الفشل بإدريس بن عبد الله إلى الفرار إلى المغرب الأقصى حيث كان ينتظره مصير أفضل من إخوانه وأقاربه الذين تعرضوا لعملية استئصال بكل ما تعنيه الكلمة من معان. لم ينج منهم إلا إدريس وأخوه يحيى. وبعد طول تفكير وحسن دراسة وتخطيط لجأ إدريس إلى طريق المغرب، أما يحيى فذهب إلى الشرق.
ويرجع اختيار إدريس للمغرب لنصيحة مولاه راشد الأوربي البربري من أهل النجدة والشجاعة والحزم وحسن النصيحة لآل البيت، الذي كان يرى استقلالية المغرب مشجعة للمغامرة، وخلال هذه المسيرة برز إخلاصه لسيده، حيث تمكن من تجاوز عيون العباسيين، وأخرج إدريس من أزمات ومخاطر بأسلوب التمويه. وبحسب ما يروى فقد ألبسه ثيابًا قديمة ممزقة، وجعله كالخادم لديه يأمره وينهاه، وبقي كذلك حتى غادر كلاهما الحجاز، قد تسلل مع حجاج مصر وأفريقيا، وترك إدريس خلفه أهله وماله في المدينة، وركبا البحر إلى بلاد النوبة ثم إلى مصر.
من مصر إلى القيروان
استقبل إدريس أنصاره في مصر فساعدوه في الخروج منها بعيدًا عن أعين العباسيين المتربصة به، حتى أن أحد أنصاره استغل منصبه كصاحب بريد مصر، فأخرجه في قافلة البريد المعفية من التفتيش. فاستمر الصاحبان -إدريس وراشد- في طريقهما حتى دخلا القيروان سالمين، لكن هارون الرشيد -الخليفة آنذاك- اكتشف الحيلة في مصر، فقتل عامله الذي ساعد إدريس وصلبه.
بقي إدريس في القيروان يتوجس خيفة من واليها يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب الذي كان تحت خلافة العباسيين، لذلك لم يمكث طويلًا وخرج إلى تلمسان ثم إلى طنجة التي كانت مستقلة عن بغداد، وفي طنجة درس إدريس موقعها وواقعها كمركز عبور رئيسي إلى الأندلس، يدخلها الكثير ممن لا يمكن الوثوق به في وقت يقل فيها أنصار إدريس، كما أنها كانت تحت أعين الأمويين في الأندلس، فرحل عنها واجتاز وادي ملوية ودخل السوس الأدنى باتجاه جبل زرهون، حيث تقيم قبيلة أوربة، ويبدو أن هذا التخطيط كان خلفه راشد، الذي يعرف جيدًا أهل المنطقة، وحط المسافران رحالهما في مركز زرهون، وليلي في عام 172هـ (788م).
وكانت مدينة متوسطة كثيرة المياه والزيتون محُوطة بسور عظيم، فاستضافهما أميرها إسحاق بن محمد بن عبد الحميد الأوروبي أحسن استقبال.
الاستقرار في وليلي وإطلاق حملات الفتح
بقي إدريس في ضيافة إسحاق ستة أشهر، أمن فيها واطمأن فظهرت خلال ذلك شمائله الحميدة الموروثة عن آبائه وأجداده. لقد كان حليمًا كريمًا حسن الطوية صادق النية متواضعًا بليغًا متفقهًا في الإسلام، شغل وقته في تعليم الناس أصول الدين القويم وأحكامه، فازداد تعلق إسحاق به، مما دفعه إلى خلع طاعة العباسيين وإلى مبايعته بالإمامة، وكذلك فعل جميع أهله وعشيرته، في مدينة وليلي في 4 رمضان عام 172هـ (6 شباط 789م).
لقد كانت بداية موفقة لمؤسس دولة الأدارسة، فقبيلة أوربة كانت كبيرة قوية مسيطرة على منطقة زرهون، أحسنت الاجتماع حول الإمام إدريس ونصرته ثم دعت القبائل المجاورة لبيعته فبايعته قبيلتان كبيرتان، مغيلة وصدينة. ثم وفدت عليه قبائل زناتة وزواغة وسدراته وغياثة ومكناسة وغمارة، وكافة بربر المغرب الأقصى.
من جانبه أدرك إدريس ثقل الأمانة التي حملها بعد ذلك فانطلق يجاهد لنشر الإسلام وليحارب البدع والخرافات وجنّد لأجل ذلك جيشًا قويًا من البربر المخلصين، فخرج في أول مرة غازيًا بلاد تامسنا، ففتح مدينة شالة ثم سائر البلاد وحصونها. وشق طريقه بعد ذلك إلى بلاد تادلا، ففتحها وبلغ ماسة.
وكان أغلب سكان هذه المناطق يهود ونصارى ومجوس، فاجتهد في دعوتهم حتى أخرجهم من الظلمات إلى النور ونشر الإسلام في ديارهم. ثم رجع لاستراحة المحارب في وليلي.
أعقب هذه الحملة الأولى حملة غزو ثانية، وهذه المرة استهدف معاقل وحصون المغرب الأقصى التي يدين أهلها بغير الإسلام؛ مثل فندلاوة ومديونة وبهلولة وقلاع غياثة وبلاد فازاز. فرحب به أهلها، وأسلموا طوعًا وبارك الله في سعي إدريس، ففتح له البلاد وقلوب العباد حتى بسط سلطته على المغرب الأقصى وأصبحت البلاد مسلمة بكاملها لأول مرة في تاريخها، مع أنه سبق أن فتحها الفاتحون الأوائل إلا أن الإسلام لم يثبت فيها كما يجب بعد خروجهم. وفي الواقع فقد كان البربر يرتدون عن الإسلام بعد كل معركة ينهزم فيها العرب ولم يكن قد استقر الإيمان في قلوبهم بعد حتى جاء إدريس فثبتوا عليه.
ثم من وليلي مرة أخرى أطلق مؤسس دولة الأدارسة حملة جديدة، فبايعه أمير تلمسان محمد بن خزر من ولد صولات المغراوي وأهلها من قبائل مغراوة وبني يفرن الزناتيين، ورحبوا به خير ترحيب، فأمر إدريس بالمقابل تعليمهم القرآن وباشر تشييد مسجد للمدينة فكان لوحة من الإتقان، وخطب فيه خطبة بليغة ونصب فيه منبرًا ثم بعد اطمئنانه على تلمسان رجع إلى وليلي.
التطورات في المغرب الأقصى تزعج العباسيين
خلال سنتين من نزوله في المغرب (منذ ربيع الأول 172هـ – إلى صفر 174هـ) (788م – 790م) تمكن إدريس من أن يبسط سيطرته على مساحة ممتدة من مدينة تلمسان حتى المحيط الأطلسي، وأسس فيها دولته المستقلة عن الدولة العباسية التي كانت في أوج مجدها وعزها مما اعتبره سادة العباسيين ضربة مؤلمة لهم من أحد المعارضين لهم نجح في الإفلات من قبضتهم.
ولأنه حكم بالعدل وطبق الشريعة وألغى الضرائب والمصادرات أمن الناس على أعراضهم وأموالهم وأنفسهم مع إدريس، وشعر أهل المغرب الأقصى بكرامتهم في ظل إمام عادل من أهل البيت فانقلب ذلك امتنانًا ووفاءً وانقيادًا قلّ له نظير، فشكل منهم جيشًا كبيرًا لفت أنظار أفريقيا.
لكنها تطورات لم ترق لهارون الرشيد، الذي انزعج جدًا من نجاح إدريس، فبدأ يخطط للقضاء عليه قبل أن يشكل تهديدًا على ولاية أفريقيا العباسية. فاستدعى وزيره يحيى بن خالد البرمكي، وبعد تشاور أعجب هارون الرشيد بفكرة مستشاره في أن يبعث إلى إدريس رجلًا ذا مكر يحتال عليه ويغتاله ويستريح منه. وبالفعل اختار يحيى رجلًا من حاشيته يدعى سليمان بن جرير الملقب بالشماخ، وكان صاحب مكر ودهاء وعلم بالجد والكلام، فقبل مغريات العرض، وزوده الخليفة العباسي بما يحتاج إليه وأعطاه كتابًا لواليه في أفريقيا محمد بن مقاتل العكي؛ ليسهل أمره.
اغتيال إدريس
وصل الشماخ إلى إدريس، وقيل منتحلًا صفة الطب، فرحب به بحذر لكنه سرعان ما اطمأن له بعد أن أظهر نفسه على أنه من أتباع العلويين من موالي أبيه عبد الله بن الحسن، مدعيًا الولاء لآل البيت والبراءة من العباسيين. وأحسن إليه إدريس واستمر في أنس به حتى أضحى من ملازميه المخلصين، ولا شك أن ذلك إلى ما أظهره من محبة آل البيت وإخلاصه الذي كان ينعكس على كلامه عند جمع الأنصار حول إدريس مما وقع في قلب الإمام وأثر فيه. لكنه مع ما كان يظهره من إخلاص، كان في ذات الوقت يتربص لإتمام حيلته لقتله والتي ما أخره عنها إلا ملازمة راشد لإدريس المستمرة.
لكن شاء الله أن دخل الشماخ الخائن على إدريس فلقيه وحيدًا، فأخرج قارورة طيب مسمومة، كان قد زوده بها الرشيد لإتمام عملية الاغتيال، ليقدمها هدية بكثير ثناء ورجاء، فقبلها إدريس محسنًا الظن، لكنه ما أن استنشق عطرها المسموم حتى سقط مغشيًا عليه.
وبعد أن تأكد الشماخ من إتمام مهمته تسلل من المجلس ثم أسرع إلى منزله وركب فرسه التي أعدها للهرب وانطلق باتجاه الشرق خشية أن يلحقوا به.
راشد يفقد صاحبه
لحق راشد بإدريس لإسعافه لكنه كان في الرمق الأخير، وفاضت روحه في آخر ربيع الأول 177هـ (16 تموز 793م)، واستغل الشماخ انشغال راشد بموت سيده للابتعاد لكن ذلك لم يكن ليغيب عن ذهن راشد الذي أرسل كتيبة من البربر لمطاردة الشماخ وإن كانت لم تصل إليه، فقد أدركه راشد بنفسه أثناء عبوره وادي ملوية، وكان منهكًا، مع ذلك مال عليه بالسيف فقطع يده اليمنى وشجّ رأسه ثلاث شجات، أثخنه جراحًا، ولم يتمكن من الإجهاز عليه لأنه سقط من جواده من الإعياء. وأفلت الشماخ والتحلق بهارون الرشيد الذي كافأه بجعله على بريد مصر.
أما راشد فرجع إلى وليلي ثم بدأ بتجهيز إدريس للدفن بعد حكم دام خمس سنوات قامت خلاله الدولة الإدريسية وأضحت أمانة استمراريتها على عاتق الصاحب المخلص.
المرحلة الانتقالية
ترك إدريس خلفه دولة طرية العود مهددة بالانهيار في أي لحظة، إلا أن إخلاص راشد كان يحيط بها، فكان أحد أهم أسباب استمرارها، فبعد دفن إدريس، توجه إلى رؤساء البربر لتنصيب حاكم ينظم أمرهم، وكانت زوج إدريس “كنزة” حبلى في شهرها السابع، وهي بربرية الأصل على الأرجح من قبيلة أوربة، لذلك اقترح أن يتولى الحكم الانتقالي حتى يظهر المولود الجديد، إن كان ذكرًا يصبح وريث ملك أبيه الراحل، وإن كان أنثى اختاروا الأحق منهم لقيادة الدولة.
وخلال هذه المرحلة الانتقالية نجح راشد في قيادة الدولة تمامًا كما كان يفعل إدريس لكن بلا ألقاب، لقد صان وجودها ووحدتها فأمنت من الفتن والاضطراب والتفكك. ولما وضعت كنزة حملها كان ذكرًا كما تمناه راشد فسعد كثيرًا لاستمرار دولة الأدارسة. بل وأطلق عليه اسم إدريس لأنه كان شبهًا لوالده تيمنًا به.
ويجدر الإشارة إلى أن الأدارسة اختاروا لقلب الإمام لسادتهم بدل الخليفة لاعتبارهم الإمام أرفع منزلة من الخليفة ولمخالفة العباسيين. ولعل هذه المخالفة هي نفسها التي قادتهم لالتزام المذهب المالكي أيضًا.
مرحلة الوصاية
ولد إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي نهار الاثنين 3 رجب 177هـ (14 تشرين الأول 793م) فقام راشد برعايته إلى جانب والدته، ومعهما أبو خالد يزيد بن إلياس العبدي البربري؛ الذي جعله راشد نائبًا عنه مع تقدمه في السن خشية أن يحصل أي طارئ فتضطرب الدولة بلا قيادة.
في هذه الأثناء اهتم راشد بإدريس الصغير فرباه كما يربي أبناء الأئمة محسنًا تعليمه وتأديبه وإعداده، وبدوره أظهر الأمير الصغير ذكاء وفطنة تليق بولي عهد، فحفظ كتاب الله على سن 8 سنوات. وتعلم الفقه والنحو وسير الملوك وسياسات الحكم وكل علم نافع فضلًا عن فنون الحرب والخيل والرماية والمبارزة. فأتقن ذلك كله وهو ابن عشر سنين.
لقد ظهرت نباهة إدريس الصغير في عمر الحادية عشر، فكان نسيجًا متفردًا في العلم والدين والشجاعة، مما دفع راشد لاستباق موعد تسليمه الحكم، وبدأ بالفعل في الاستعداد لأخذ البيعة له وكله ثقة فيه.
في هذه الأثناء كانت أعين بني العباس على ما يجري في قصر الأدارسة، فأوعز الرشيد إلى عامل أفريقيا إبراهيم بن الأغلب التخلص من راشد بأي طريقة كانت؛ لأنه اعتقد أن التخلص من هذا العقل المدبر يعني انهيار الدولة. وكان ابن الأغلب طامعًا في ولاية أفريقيا مكان محمد بن مقاتل العكي، فأبدى استعدادًا لأي مغامرة خطرة لإرضاء الخليفة في بغداد.
لكن آل إدريس كانوا على يقظة تامة بالاغتيالات، فلم يستطع الأغلبي الوصول لإدريس الثاني فقد كانت أمه تطعمه بنفسها خوفًا عليه من أي يد تدس السم، ومع ذلك استطاع الأغلبي أن يشتري بعض البربر من خدام راشد بالمال، فاغتالوا سيدهم في عام 188هـ (803م) كما مات صاحبه إدريس الأول بالسم أيضًا.
ومات راشد لكن الدولة لم تمت بل استمرت كما خطط لها، تسير بأمر وصي إدريس أبي خالد وقد صدق ظنه فيه، وكان أول عمل أقدم عليه أبو خالد دعوة البربر لمبايعة الإمام الجديد إدريس الصغير وكان راشد قد أعد أمر البيعات سابقًا قبل رحيله وهيأ الإمام لاستلام الأمانة.
وسبب استعجال أبي خالد تسليم أمانة الحكم لإدريس الثاني، أنه لم يكن بمثل مهابة راشد بين الناس، الذي تربى في بيت أحفاد النبي صلى الله عليه وسلم وعاش محنهم ومآسيهم وتمرس على ممارسة السلطة على يد أسيادها، فضلًا عن إخلاصه وتفانيه كقائد، فخشي أن يفسد ما بناه أميره، لذلك سارع لتسليم السلطة لولي العهد، وما أن فعل حتى تلاشى خبر أبو خالد في كتب التاريخ بعد ذلك ولم يعد يذكر.
عهد إدريس الثاني
لبّت قبائل البربر الدعوة لبيعة إدريس الثاني في ربيع الأول 188هـ (16 شباط 804م) بعد مقتل راشد بعشرين يومًا، وكان عمر إدريس 11 سنة وخمسة أشهر فقط. ولما تمت له البيعة صعد الإمام الصغير المنبر ثم خطب في رعيته قائلًا:
“الحمد لله أحمده وأستعين به وأستغفره وأتوكل عليه وأعوذ به من شر نفسي وشر كل ذي شر، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله المبعوث إلى الثقلين بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا صلى الله عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين الذين لأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا.
أيها الناس إن قد ولينا هذا الأمر الذي يضاعف للمحسن فيه الأجر وللمسيء الوزر، ونحن والحمد لله على قصد جميل فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا فإن ما تطلبونه من إقامة الحق إنما تجدونه عندنا”.
ثم دعا من تخلف من الحاضرين لمبايعته وقد أعجبوا بفصاحته ونبله ورباطة جأشه. فأحاطته البيعات من كل مكان، واستمر الإمام طيلة عام 188هـ يستقبل الوفود لتهنئته وتأييده.
وكان بالفعل عند حسن ظن مربيه، فقد سار إدريس الثاني سيرة أبيه في الناس، مجددًا تعاليم الدين وناشرًا للعدل مقيمًا للسنة فاستقام أمره وملكه وعز سلطانه بكثرة أتباعه والمخلصين له، كما شكل جيشًا قويًا لمتابعة الفتح، وعينه على دفع خطر ولاة العباسيين في أفريقيا.
إدريس الثاني وتنظيم الدولة
لقد جذبت سيرة إدريس الثاني الحسنة العرب إليه من الأندلس وأفريقيا، فوفد إليه مئات الفرسان من القيسية والأزد والخزرج وبني يحصب والصدف وغيرهم، وبدوره رحب بهم واعتز بانضمامهم، خاصة أنه كان وحيدًا بين البربر. ولا شك أن هذا الإقبال من الفرسان إنما يدل على رسوخ دولته واستقرارها.
وانصرف الإمام الجديد لتنظيم جهاز الدولة الإداري، وبانضمام هذه الوفود استحدث الوزارة لأول مرة في الدولة الإدريسية، وبرزت مهارات إدريس القيادية وذكاؤه في اختيار وزرائه ما يؤكد مرة أخرى نبوغه وبعد نظره، لقد كان العرب أكثر تفوقًا حضاريًا من البربر، لذلك استوزر عمير بن مصعب الأزدي من فرسان العرب المشهورين في أفريقيا والأندلس، كان قد هرب مع والده للأندلس بعد سقوط بني أمية في الشرق ثم استقر فيها، فلما بويع إدريس الثاني قدم عليه عمير بن مصعب مع قومه الأزد ليبايعوه، فجعله وزيره.
ولعب -كما كان يتوقع إدريس- دورًا بارزًا في قيادة الدولة، فساهم في بناء مدينة فاس وأخلص لإمامه إخلاصًا قلّ له نظير! وما يشير إلى درجة وثوق إدريس به أنه زوجه ابنته عاتكة فيما بعد، وقد توفي الوزير المخلص لاحقًا في فاس، وبقيت فيها ذريته ويدعون بني الملجوم.
وبعد اختيار وزير عربي أمين، اختار أيضًا إدريس وزيرًا بربريًا ليكسب ودّ شعبه، فكان بهلول بن عبد الله بن عبد الواحد المطغري الوزير البربري إلى جانب الوزير عمير العربي.
سياسة قطع الطريق
لكن الوزير البربري لم يكن مخلصًا كعمير، فمال إلى العباسيين ضد إدريس بتشجيع من إبراهيم بن الأغلب والي أفريقيا بعد أن أغراه بالمال. وهنا برزت مرة أخرى حنكة إدريس السياسية، حيث عرض الصلح على إبراهيم بن الأغلب لما استراب بأمر بهلول. واستشار إبراهيم بطانته ثم كتب لإدريس بقبول الصلح فضعف موقف بهلول ومن معه.
وبهذا الصلح أمّن إدريس حدود دولته ثم حذر بهلول من التمادي ليضبطه، ولعل هذه الخطوة كانت من أذكى قرارات الإمام الذي قطع الطريق أمام أطماع العباسيين.
ثم جعل على القضاء عامر بن سعيد القيسي، وكان من أهل الورع والدين متفقهًا على مذهب الإمام مالك بن أنس، سمع من سفيان الثوري، وعلى الديوان جعل الكاتب أبا الحسن عبد الله بن مالك الخزرجي، وانتهت تدابير الحكم إلى رسم خطط مدينة فاس سنة 192هـ (808م) فشيدها ثم اتخذها عاصمة لدولته.
على خطى والده
لم يهمل إدريس الجهاد والفتح الذي كان سر تفوق كل دولة وضمان استمراريتها، فاستفاد من الفرسان العرب الذين توافدوا عليه وقام بتنظيم جيشه على خطى أبيه. فغزا بلاد المصادمة من مناطق السوس الأدنى في عام 197هـ (813م) وسيطر على نفيس وأغمات.
ونفيس مدينة قديمة كثيرة الأنهار والثمار فتحها عقبة بن نافع في عام 62هـ فبنى فيها مسجدًا، وكذلك كانت أغمات مدينة واعدة، فنشر إدريس الإسلام فيهما، ثم أنشأ دارًا للسكة وضرب الدرهم الإدريسي لأول مرة في عام 198هـ (814م)، فكانت هذه أوّل قفزة حضارية في الاقتصاد، تمكن من خلالها من إضفاء قوة مالية لمملكته.
قتال الخوارج
وبعد مرحلة انشغال في ترقية مؤسسات الدولة في فاس، خرج إدريس في محرم سنة 199هـ (815م) لقتال الخوارج الصفرية؛ أصحاب زياد بن الأصفر، لقد قاتلهم إدريس بشجاعة كبيرة حتى أذهل جيشه، يكفي أن ننقل في وصف ذلك ما قاله داود بن القاسم بن عبد الله بن جعفر:
“شهدت مع إدريس بن إدريس بعض غزواته للخوارج الصفرية من البربر فلقيناهم وهم ثلاثة أضعافنا، فلما تقارب الجمعان نزل إدريس فتوضأ وصلى ركعتين ودعا الله تعالى ثم ركب فرسه وقدم للقتال، فقاتلناهم قتالًا شديدًا، فكان إدريس يضرب في هذا الجانب مرة ثم يكر إلى الجانب الثاني، فلم يزل كذلك حتى ارتفع النهار فرجع إلى رايته فوقف إزاءها، والناس يقاتلون بين يديه، فطفقت أنظر إليه وأديم الالتفات نحوه وهو تحت ظلال البنود يحض الناس ويشجعهم فأعجبني ما رأيت منه من شجاعة وقوة جأش، فالتفت نحوي وقال لي: يا داود مالي أراك تديم النظر إلي؟
قلت أيها الإمام إنه أعجبني منك فعال لم أرها في غيرك، قال وما هي يا داوود؟ قلت: أولها ما أراه من حسنك وجمالك وثبات عقلك وطلاقة وجهك، وما خصصت به من البشر عند لقاء عدوك، قال ذلك من بركة جدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعائه لنا، وصلاته علينا وإراثة عن أبينا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قلت: أيها الأمير، أنا أتعجب من كثرة تقلبك في سرجك وقلة قرارك في موضعك، قال ذلك في زمع إلى القتال وحزم وصرامة وهو أحسن في الحرب فلا تظنه رعبًا وأنشأ يقول:
أليس أبونا هاشم شد أزره ** وأوصى بنيه بالطعان والضرب
فلسنا نمل الحرب حتى تملنا ** ولا نشتكي مما يؤول إلى النصب
وانتصر إدريس على الخوارج، وأعادهم إلى الإسلام الصحيح، ومد حدود دولته إلى وادي شلف بالمغرب الأوسط واستقرت البلاد بعد ذلك في خير ورخاء.
وفاة إدريس الثاني
لكن مسيرة الإمام المتفاني كان لها النهاية الأكيدة والأجل المحتوم فقد توفي إدريس في عام 213هـ (828م) عن عمر يناهز ستًا وثلاثين سنة، بسبب حبة عنب شرق بها، يعتقد أنها كانت مسمومة. فحزن عليه الناس حزنًا شديدًا وتم دفنه في عاصمة دولته فاس بعد أن سطر سيرة ماجدة، فقد كان الإمام الثاني لدولة الأدارسة عالمًا بكتاب الله قائمًا بحدوده راويًا للحديث جوادًا كريمًا حازمًا فاضلًا، له عقل راجح وحلم واسع وإقدام في مهمات الأمور. بلغت دولته في عصره أقصى اتساع لها؛ حيث امتدت من وادي الشلف بالمغرب الأقصى شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، ومن ساحل البحر المتوسط شمالًا إلى الصحراء جنوبًا، دولة إسلامية سادها الأمن والاستقرار تدعو لله في أصقاعها النائية التي لم يصل لها والده من قبل قد أمّنها من مكر العباسيين وطمع الأغالبة، ودسائس الخونة وكل عدو محتمل، فكان خير وريث لوالده.
ورثة إدريس الثاني
ترك إدريس الثاني خلفه اثني عشر ولدًا ذكرًا هم؛ محمد وعبد الله وعيسى وإدريس وأحمد وجعفر ويحيى والقاسم وعمر وعلي وداوود وحمزة وبكرهم محمد. وابنة وحيدة؛ عاتكة، وجعل وراثة الملك من بعده في محمد، وكانت أمه حرة من أشراف نفزة، فاستلم الملك وبايعه الناس جميعًا ثم تلقب بالمنتصر. وتصف الكتب الإمام الجديد بأنه كان أسمر اللون أجعد الشعر.
دولة الأدارسة في عصر محمد
تسلم محمد دولة موحدة متماسكة فبدأ عهده بتجزئتها، حيث أشارت عليه جدته كنزة أم والده إدريس بتوزيع الأقاليم على إخوته ففعل. وكلّف الكبار بإدارة الأقاليم بينما بقي الصغار في عهدة جدتهم لصغر سنهم.
وبقيت تلمسان بيد ابن عمه عيسى بن إدريس بن محمد بن سليمان بن عبد الله. وقد استمر أبناء سليمان في حكمها حتى نهاية الأدارسة على يد العبيديين.
بعد تقسيم البلاد على الإخوة بقي محمد في فاس يراقب أعمالهم، وكان سعيدًا من إتمامهم مهامهم على أحسن وجه واستقرت مع جهودهم البلاد في بداية ولايتهم.
لكن الأمر لم يستمر طويلًا، فقد ثار على محمد أخوه عيسى صاحب شالة وتامسنا، ونكث بيعة أخيه وخلع الطاعة ودعا لنفسه في مدينة آزمورا.
فلم يجد الإمام من بد إلا أن يأمر أخاه الآخر القاسم صاحب طنجة وسبتة بوضع حد لتمرد أخيه لكونه الأقرب إليه مسافة. لكن القاسم أبى ذلك معتذرًا منه، فحول محمد الأمر إلى أخيه عمر صاحب مدينة تيكان وغمارة لمحاربة عيسى فأجابه سريعًا وجمع جيشًا كبيرًا من قبائل البربر وغمارة وأوروبة وصنهاجة وغيرهم مع مدد محمد بألف فارس من قبائل زناتة، وتقدم نحو أخيه عيسى فهزمه واستولى على مقاطعته، وقابل محمد صنيعه بالشكر والامتنان فترك له حكم مقاطعة عيسى.
لكنه لم يتخلص من غضبه من القاسم الذي امتنع عن حرب عيسى، فطلب من عمر إخضاعه هو الآخر ففعل، واقتتل الأخوان بظاهر طنجة، فانهزم القاسم بعد معركة شديدة واستلم عمر البلاد. وبقي مخلصًا لأخيه حتى توفي في عام 220هـ (834م)، ودفن بفاس بجانب قبر أبيه. وعمر هو جد الحموديين الذين حكموا جنوب الأندلس على إثر سقوط دولة الأمويين هناك. أما القاسم بعد هزيمته فسار إلى الساحل الأطلسي، مما يلي مدينة أصيلا فبنى فيها مسجدًا وبقي زاهدًا عابدًا إلى أن توفي.
وفاة الإمام محمد
توفي محمد في مدينة فاس بعد سبعة أشهر من وفاة أخيه عمر فقط في عام 221هـ (835م)، ودفن بجامعها إلى جانب أبيه وأخيه. وانتهت مدة حكمه التي دامت ثمانية أعوام وشهرًا واحدًا، ليخلفه ابنه علي الملقب بحيدرة بعهد منه.
العصر الذهبي للأدارسة
وفي الواقع أنه بوفاة محمد انقضى على قيام دولة الأدارسة نصف قرن تقريبًا وانتهى معها عصر الدولة الذهبي. حيث تميزت مرحلتها الأولى بأزهى أيامها، شهدت خلالها تقدمًا من كافة النواحي السياسية والتنظيمية والثقافية، مع جيش قوي ومؤسسات دولة منظمة تحكمها الشريعة. وبقيت فاس أحد أهم حواضر المغرب تعكس رقي دولتهم.
ثم إنه في عصر الأدارسة، تمتع المغرب لأول مرة في تاريخه القديم بمكانة دولية، فبعد أن كان مجرد ولايات تابعة للأجنبي وإمارات مبعثرة في أطراف الصحراء لا يشعر بوجودها أحد منحه الأدارسة الوحدة والاستقلال. فانتشر الإسلام واللغة العربية، وترك الأدارسة آثارًا مهمةً في كيان المجتمع المغربي وتطورات واضحة في مواقف قواه الاجتماعية. لقد انتظمت الحياة وازدهرت تحت ظل الإسلام.
تدل على ذلك آثارهم الاقتصادية ومساهماتهم في الزراعة والصناعة، وحين نتحدث عن الصناعة فالمقصود بذلك الصناعة التي تتناسب مع التطور التاريخي في ذلك الزمان لتغطية حاجات الأمة، إضافة إلى الاهتمام بالحرفيين من كافة الاختصاصات.
كما شكل التعريب نواة النهضة الفكرية والدينية التي عمت المغرب فيما بعد.
واستمرت الدولة موحدة قوية إلى أن جاء العبيديون الذين أسقطوا دولة الأغالبة المجاورة وتطلعت أعينهم لدولة الأدارسة فتربصوا بها إلى أن أسقطوها.
عصر علي “حيدرة”
خرجت دولة الأدارسة من حرب الإخوة منتصرة على التجزئة والانفصال وعادت كما كانت تحت حكم الإمام محمد فخلفه ابنه علي الملقب بحيدرة، وكان عمره لما استلم الحكم 9 أعوام وأربعة أشهر، لكنه كأجداده كان ذكيًا فطنًا فنظم البلاد وضبطها وحكم بالعدل واهتم بالثغور، وساعدته حاشيته في شؤون الحكم من العرب والبربر خاصة أوربة، لذلك استقرت الدولة في عصره إلى أن وافته المنية في عام 234هـ (849م). فخلفه أخوه يحيى بن محمد.
عصر يحيى بن محمد
في عصر يحيى بن محمد استمرت البلاد مستقرة، وتعهد الإمام الخليفة بتنظيم بلاده إداريًا لأعمامه وأخواله، وشهد عصره الإكثار من العمران في فاس العاصمة والتي توسعت في عهده بشكل أكبر. وتذكر المراجع التاريخية أن بناء جامع القرويين تم في عصره.
بداية انهيار دولة الأدارسة
وبعد وفاة يحيى انتقلت الدولة إلى أولاده فخلفه ابنه يحيى الثاني، وكانت مع هذا الانتقال بداية الانحطاط الفعلي لدولة الأدارسة. لقد كان فاسدًا مستهترًا سيء السيرة كثر عبثه في الحرام ورويت عنه قصص من خوارم المروءة وتعدي حدود الله لا تليق بمسلم، فاستثار العامة وطالب عبد الرحمن بن أبي سهل الجذامي بقتله، لكنه هرب منهم بمساعدة زوجه عاتكة الهاشمية، ومع ذلك، بعد نجاحه في الفرار مات خجلًا من نفسه في مخبئه.
خروج الحكم من يد الأدارسة
بعد فرار يحيى الثاني تولى عبد الرحمن الجذامي الدولة وكان أول رجل من العامة يدخل الحكم في سلسلة الأئمة الأدارسة. فبدأت ملامح الجرأة على التمرد والعصيان تتجلى في العامة لكونه لم يكن على مستوى نسب الأدارسة الذين يكنّ لهم الشعب كل الاحترام والتقدير.
وبرز دور عاتكة الهاشمية مرة أخرى في تاريخ الأدارسة حين لاحظت ما يجري في الدولة بعد وفاة زوجها واستلام الجذامي الحكم، فكتبت إلى والدها علي بن عمر، تعلمه بما حدث في فاس وتستغيثه، ولم تكن لوحدها فقد وصلتْ عليًًا العديدُ من المناشدات للتدخل.
تدخل علي بن عمر وحرب الخوارج
كان علي أميرًا على الريف وبلاد صنهاجة وغمارة، فاستجاب لنداء الاستغاثة وجهز جيشًا واتجه به إلى فاس، مما جعل الجذامي يفر قبل وصوله، قد علم مصيره إن بقي.
وبقي الأمير في فاس وبايعه الناس واستقرت البلاد من جديد، لكنه ما لبث أن تعرض لثورة خارجية جديدة، حيث ثار بجبال بويبلان الخارجي عبد الرزاق الفهري الصفري. فدارت بينهما معارك شرسة، وكانت أيام محنة شديدة على دولة الأدارسة خاصة مع تقدم الخوارج، مما اضطر أهل فاس للتصدي لهم بأنفسهم بعدما رأوا أن أميرهم قد انهزم وأجبر على الفرار إلى قبيلة أوربة، فاستدعوا ابن أخيه وهو يحيى الثالث بن القاسم بن إدريس الملقب بالمقدام لنجدتهم فلبى بدوره النداء وبايعوه.
وقاتل يحيى الثالث الخوارج، ونظم شؤون فاس، وأخرج جيشًا لقتال الخوارج الصفرية، فدارت معارك عنيفة بينهما، وبقي طيلة وقته يقاتل الخوارج حتى قتله الربيع بن سليمان عام 292هـ (905م).
وخلف يحيى الثالث عمه يحيى بن إدريس. وكان فقيهًا حافظًا للحديث، شجاعًا حازمًا، سمعته طيبة، قال عنه ابن خلدون: “كان أعلى بني إدريس ملكًا” بينما وصفه روض القرطاس: “كان يحيى هذا أعلى بني إدريس قدرًا وصيتًا وأطيبهم ذكرًا وأقواهم سلطانا… وكان فقيهًا حافظًا للحديث ذا فصاحة وبيان ولسان ومع ذلك كان بطلًا شجاعًا حازمًا”.
لكن في عصره خضعت دولة الأدارسة للعبيديين في وقت كان فيه هؤلاء العبيديون قد توسعوا إلى الغرب، فأرسل خليفتهم عبيد الله المهدي قائده مصالة بن حبوس المكناسي للاستيلاء على المغرب الأقصى، ونشر المذهب الشيعي وذلك في عام 305هـ (918م).
فزحف مصالة إلى مكناسة حيث كان ينتظره يحيى بن إدريس بجيشه لكنه انهزم أمامه فرجع إلى فاس وتحصن فيها.
تقدم مصالة نحو العاصمة فحاصرها إلى أن أكره يحيى على بيعة الخليفة العبيدي المهدي على مال يؤديه إليه مع بقائه حاكمًا على فاس وأعمالها، لكنه قطع منه سائر أنحاء المغرب وأعطاه لابن عمه موسى بن أبي العافية المكناسي الذي حمل راية تدمير الأدارسة بعد ذلك. فوافق الأمير المنهزم، وكانت حملة مصالة هذه أول ضربة قاصمة تصيب دولة الأدارسة في الصميم. لقد فرض على البلاد التي كانت سنية على مذهب مالك التشيُّع والضرائب ونزع منها السيادة وسلبها أراضيها التي أعطيت لعدوها. وخطب في تلك الأيام المظلمة للخليفة العبيدي وتحولت الأموال لخزينة العبيديين.
لقد عاشت دولة الأدارسة في آخر أيامها فوضى واضطراب بسبب القتال بين أبناء إدريس والخوارج الصفرية، وتسلط العبيديين، وبسبب هذه الحروب ساءت الحالة الاقتصادية والاجتماعية وانهارت الثقة في استمرار الدولة وانعكس ذلك على حياة الرعية.
الضربة القاضية
ثم جاءت حملة مصالة الثانية على المغرب في عام 309هـ (922م)، فزحف مصالة إلى المنطقة مرة ثانية بعد أن درس الوقت والفرصة جيدًا لتأكيد السيادة العبيدية، فبثّ الرعب في القبائل وانتهز الفرصة للتخلص من يحيى بن إدريس بلا سيف، حيث عزم مصالة على استدراج يحيى لاعتقاله، وبالفعل كان له ما يريد فسام آخر ملوك دولة الأدارسة أشد العذاب، حتى أخرج له أمواله وذخائره ثم عزله ونفاه إلى مدينة أصيلا بينما تفرق أنصاره من حوله.
بقي الإمام يحيى في منفاه مع بني عمه، لكنه لم يرض هذا النفي فرحل إلى أفريقيا، لا يدري أن عدوه موسى بن أبي العافية البربري الحاقد يتربص به، وبالفعل تمكن منه واعتقله وسجنه في مدينة الكاي لعشرين سنة كاملة! ثم أخرجه وقد نال منه السجن، فتابع ملك الأدارسة رحلته في ضيق وفقر شديدين في أفريقيا إلى أن وصل إلى المهدية أثناء فتنة مخلد بن كيداد الزناتي وحصاره لها، فتوفي جائعًا بالمهدية سنة 332هـ (945م).
بروز الحجام آخر ملوك الأدارسة
لما علم الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس الملقب بالحجام باعتقال يحيى ونفيه وتعيين ريحان المكناسي واليًا على فاس، اجتمع بمجموعة من أنصاره المخلصين ودخل المدينة خفية في عام 310هـ (923م) فعلم الناس به فبايعوه واستعاد ملك آبائه، ووسع ملكه فاستقر سنتين بخير حال، حتى نشب القتال بينه وبين عدوه موسى بن أبي العافية.
خرج الحسن من فاس لقتال موسى في عام 311هـ (923م)، فدارت بينهما معركة كبيرة على مقربة من وادي المطاحن بين فاس وتازا، لم تشهد البلاد مثلها، لقد امتلأت الأرض بحوالي ثلاثة آلاف قتيل منهم ألفان وثلاثمئة قتيل من جيش موسى بينهم ابنه منهل فضلًا عن قتلى جيش الحسن. مع ذلك لم يتمكن الحسن من حسم المعركة، فانتصر موسى في الأخير.
مما أجبر الحسن على التراجع لفاس حيث أبقى جيشه خارج الأسوار لكن قدرًا آخر كان ينتظره، لقد غدر به عامله حامد، فاعتقله وسجنه ليسلمه لموسى ويسلم له المدينة كاملة على طبق من ذهب! لكنه مع هذه الخدمة التي قدمها لموسى، لم ينل ما كان يطمح إليه بحكم فاس، فأصابه الندم. ولم يكتف موسى بحرمانه فاس بل ألح عليه بتسليم الحسن لقتله، فلجأ للتسويف والمماطلة لعله يجد مخرجًا، ثم اهتدى إلى إطلاق سراح الحسن ليلًا بالسر، فنجح الأخير في الهروب بصعوبة إلى عدوة الأندلسيين مصابًا في قدمه إصابة شديدة أصيب بها أثناء هروبه حتى توفي بعد ذلك بثلاثة أيام سنة 313هـ (926م). أما حامد فقد فر إلى مدينة المهدية عاصمة العبيديين.
وبموت الحسن، مات آخر ملوك الأدارسة الذين حكموا فاس، وكان موته نهاية الدولة، التي سقطت بيد ابن أبي العافية بعد أن دام حكمها أكثر من قرن من الزمان.
محنة الأدارسة بعد سقوط الدولة
وخلا الجو لموسى الذي قرر إجلاء الأدارسة عن المغرب الأقصى، فلجأوا إلى قلعة حجر النسر وكانت بمثابة حصن منيع في الجبال قرب تاطوان، بناه الأمير محمد بن إبراهيم سنة 317هـ (930م) واضعًا في حسابه ضرورة تأمين حصن للأدارسة لحمايتهم في أيام المحن وقد أحسن التفكير في ذلك.
لكن حقد موسى لم يكن ليهدأ، وكان يبدي المزيد من البغض للأدارسة حتى قام له أهل المغرب ومنعوه من التمادي لمكانة الأدارسة في قلوبهم. فعجز موسى أمام رؤوس البربر، ولم يتمكن من التحرك بحرية في حملته الحاقدة، إلا أنه بقي محاصرًا الأدارسة في القلعة.
ثم نظم أمره وجمع جيشه وهجم على تلمسان التي كانت بيد أحد الأدارسة وهو الحسن بن أبي العيش بن عيسى، فهرب ملك تلمسان إلى مدينة مليلة في وادي ملوية ليتحصن بها بينما زحف موسى فاستولى على المدينة وانتهى بحصار الحسن ثم عقد صلحًا معه يقضي بإبقائه في حصنه. ثم رجع موسى إلى فاس واستقر بها، فدان له حكم المغربين الأقصى والأوسط.
أما عن مصير الأدارسة فتلاشوا في نسيج الأمة مع بعض الزعامات المحلية التي حافظت على حضور سياسي ممتد رغم ما نالهم من موسى ابن أبي العافية. ودخلت البلاد مرحلة الدولة العبيدية المظلمة.