منوعات

الصوت في القصيدة العربية نحو تشكيل البنية الدلالية وتأسيس البنية الإيقاعية

الصوت في القصيدة العربية

نحو تشكيل البنية الدلالية وتأسيس البنية الإيقاعية

 

الشعر صناعة لا يأتي بها إلا من وهب الملكة والقريحة، وصقل الصنعة وشحذها بالحفظ والدربة، وجالس الشعراء والخطباء فتلقف منذ صباه قوافيه وأحس نغمه ساريا في نفسه، سواء أكان ذلك من منبع الإرث عن والد أو قريب أو كان ذلك من منهل الملكة التي وهب إياها، فيفيض وجدانه إحساسا وينطق لسانه كلاما موزونا مقفى على سجية العرب وفطرتها، دون أن يخرج قوله عن سنن مألوف تكلمت سليقتها به فتوافق مع ذوقها ووجدت له قوة في التعبير لا توجد في غيره، فكان سحره واقعا في نفس من يسمعه، يشد إليه شدا فأقبلت علبيه الأسماع وهفت إليه القلوب فجعلت له الأسواق والمضارب ينشد فيها فينظر أي النظم أجود وأحسن، وأي الشعراء أفحل، فتفاضلوا فيما بينهم بناء على ما أملته الذائقة والخبرة، فكانت تضرب للنابغة قبة حمراء فيها يحكم بين أقوال الشعراء فيجيز هذا القول ويرد ذاك فيرفع من هذا ويحط ذاك فيقوم ويعدل ويرجح هذا اللفظ على غيره لتناسبه أكثر في المقام من صاحبه، فكان ذلك مشروعا لتأسيس بدايات درس النقد في تاريخنا الشعري.

 

لقد كانت الذائقة العربية على درجة عالية من تمثل الخطاب الشعري، فهي ذائقة ترفض أية مخالفة لما جرى عليه نسق الشعر العربي ولو كان ذلك في أبسط أو أعقد مكوناته التأليفية كحركة الروي، لذلك استهجنت العرب الإقواء في قول النابغة:

 

فمخالفة النسق النغمي ـ في إطار محاولة النابغة تجريب نوع شعري لم تكن البيئة العربية مستعدة له ـ، أمر مرفوض يمجه الذوق ليجد النابغة نفسه مضطرا إلى العدول عما صنع مدركا أن التجريب الشعري ممنوع في البيئة الجاهلية، فمثلما رفضت الذائقة استعمال اللفظ الذي لا يليق في موضع ما من البيت، رفضت ما يخالف النغم المألوف، وهذا نابع من الحدس الشعري والملكة التي فطرت عليها العرب، وهو حدس مثلما كان يدرك هذه المواضع كان يحس مواطن الصوت في اللفظ ومدى تناسقه معه ومع التركيب، فاستقبح الذوق اللفظ الجامع لصوتين تقاربا في المخرج والصفات كالعين والهاء مثل شعهر، ومج الثقل الذي تحدثه بعضها سواء عبر اتصال الضمائر في بنياتها أو لمشكلات النطق التي تحدثها فكانت الإعلالات والإبدالات وسائل للتخفيف وتسهيل التصويت، لذا كان وعي العرب بدور الصوت بينا جليا يتحسسون جماله ويدركون أبعاده الوظيفية داخل التركيب العربي، فكان الشاعر المجيد المفلق منهم يعمد إلى تخير الرقيق من اللفظ لرقة صوته في الغزل والرثاء ويعمد لتخير المغلظ منه والمفخم من الصوت في أبواب الفخر والمدح والهجاء، لإدراكهم أن الصوت لا يقل شأنا عن تخير اللفظ ومناسبته للمقام، واتساق اللفظ مع غيره في التركيب، فالبنية الشعرية في البيت إنما تتألف من أصوات قبل تشكل اللفظ وتجاوره مع غيره، والشاعر العربي كان على درجة كبيرة من الوعي الشعري بأهمية الصوت وخدمته للدلالة الشعرية، فكان المفتخر منهم يأتي بالحروف المفخمة أكثر من غيرها دلالة على الشدة والقوة، والمتغزل والراثي ينتقي ما كان مشكلا من أصوات مهموسة تتلاءم مع المعاني الرقيقة المتدفقة بالأحاسيس الرائعة للحب الحاكي للوعة والحرقة والعشق العفيف، فهم أصحاب رهافة حس والمتلقي العربي ذو ذائقة لا تخطئ جمال الصوت في اللفظ أو قبحه، فتحمل النفس على التأثر بجميل التنسيق فيه أو على استهجانه والنفور منه لعدم وقوعه الموقع الحسن في الأذن، ولهذا يظل الصوت ذا قيمة عليا في تشكيل الدلالة الشعرية والإسهام الفاعل في تأثيت البنية النغمية للقصيدة العربية، فقد دأبت اغلب الدراسات على النظر في عناصر تشكل الدلالة ناظرة في اللفظ ومعناه متبنية الطرح البلاغي والنقدي القديم الذي دارت رحاه حول قضية اللفظ والمعنى منذ الجاحظ ومرورا عبر أئمة البلاغة العربية مع الرماني والجرجاني وحازم القرطاجني وغيرهم وأهل النقد كقدامة وابن رشيق والعسكري، ولا يعني هذا أن الدرس النقدي أغفل الجانب الصوتي مطلقا وإنما لم يكن ليتوغل في أعماقه ويسبرها فظل عائما في السطح دون أن يلامس الأغوار للانشغال بقضية اللفظ والمعنى لإثبات إعجاز القرآن في بيئة اتسمت بالجدل الكلامي المحتدم بين المعتزلة والأشاعرة ردا على من أنكروا إعجاز القرآن، فظل نفس الطرح مستمرا حتى مع الدرس اللساني الحديث وتحديدا مع فردناند دي سوسير في إطار حديثه عن مفاهيم لسانيو جديدة مؤسسا لجهاز كبير متسم بالجدة اللسانية في الطرح العلمي، فكان حديثه عن الفرق بين اللسان واللغة أو الكلام وعلاقة اللغة بالفكر وعلاقة الدال بالمدلول واعتباطية اللغة وغيرها من المفاهيم، فوازى ذلك تطور كبير للدرس الفونيتيكي الذي أسهمت أدوات اشتغاله في فهم دور الصوت في تشكيل الدلالة الشعرية وتحقيق البنية الإيقاعية للقصيدة، بشكل تجاوز المنحى التقليدي للدرس اللغوي القديم الذي وقف عند حدود استعمال الصوت في اللفظ عبر منهج مقارن وجدناه عند علمائنا كان فيه اجتهاد كبير وحدس بين لا يخفى اقتحم عمق الألفاظ وفطن إلى دور الصوت في تشكيل معانيها، فبينوا الفرق بين الأصوات ودورها في تشكيل المعنى من حيث ضعف الصوت وقوته بحكم طبيعته كالسين والصاد يقول ابن جني: ” ومن ذلك قولهم الوسيلة والوصيلة والصاد ـ كما ترى ـ أقوى معنى من الوسيلة وذلك أن التوسل ليست له عصمة الوصل والصلة، بل الصلة أصلها من اتصال الشيء ومماسته له، وكونه في أكثر الأحوال بعضا له ونحو ذلك، والتوسل معنى يضعف ويصغر أن يكون المتوسل جزءا أو كالجزء من المتوسل إليه وهذا واضح فجعلوا الصاد لقوتها للمعنى الأقوى والسين لضعفها للمعنى الأضعف “[1]، وقال في موضع التمييز بين الحاء والخاء: ” ومما وقع في آخر الكلمة قولهم: نضح ونضخ وهما للماء والنضخ أقوى من النضح قال الله سبحانه: ﴿ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ [سورة الرحمن: الآية 66]، فجعلوا الحاء لرقتها للماء الضعيف والخاء لغلظها لما هو أقوى منه[2] ومثل هذا كثير في لغة العرب، كما أن الوعي بالصوت عند علمائنا كان جليا في باب آخر غير هذا وهو باب تسمية الأصوات الصادرة من مصادرها كالكركرة والطخطخة والقرقعة للضحك والحفيف للشجر والفحيح الأفعى والنعيق للغراب وما شابه ذلك من تسميات توافق سمة الصوت بعضها يحاكي الطبيعة وبعضها يحاكي الفعل الإنساني مثل لقلقة وهي الجلبة وقبقبة وهو اسم للبطن لصوته الذي يصدر عن أمعائه، ومراتب الضحك التي تقدمت، وبعضها يأتي على صيغة وزنية مضبوطة مثل فَعَلان قابلوا فيها بتوالي حركات المثال حركات الأفعال وذلك في المصادر الدالة على الحركة والاضطراب كالغليان والغثيان، ولهم في هذا مبحث طويل أفردوا له أبوابا في الكتب.

 

فإذا كان هذا حال الأذن العربية تلتقط الأصوات من منابعها فتمنحها التسمية مدركة العلاقة بين الدال والمدلول بناء على الاعتباطية، وتدرك الفوارق بين استعمالات الصوت في الخطاب نثرا، فكيف يكون حالها وهي تلتقطه في جميل فنونها وبديع صنعتها التي تتباهى بها في المجالس وتعرض للمنافسة في الأسواق وهو ديوانها ولسانها بين الأقوام، فلابد أن حدس التلقي عندها أقوى ما يكون للصوت في الشعر، ولذلك لما جاء الوحي القرآني استشعرت العرب حلاوة الجرس فيه ولذة النغم فقاسته على الشعر وفطنت إلى أنه يجري على سننها دون أن يكون شعرا، فواصله تطرق الآذان طرقا وحروفه القوية في مواضع الشدة تقرع الأذهان وتزلزل الباطن، لذا فالصوت يكتسي أهمية كبرى بالنسبة للعربي في تشكيل الدلالة، مما جعله يتخير في ثراء اللغة كل لفظ يرى فيه مقدرة على التعبير عن المعنى المراد الموافق للأحاسيس والأفكار، فيحس المعنى متدفقا، منسابا عبر أصواته التي تتآلف وتتناسق مستجيبة لمقصدية المتكلم متوائمة مع دلالة القول، محققة للنغمة والموسيقى التي ألف جرسها العربي في الكلام الشعري مثلما ألفها في سجع الكهان والخطب، إلا أن الخطاب الشعري يحظى عنده بقيمة عليا لتشكل الإيقاعية التي تربى عليها وهو يردد الحداء في مرعاه للإبل، ترديدا متناغما مع حركتها يحثها على السير والاستبطاء والاحرنجام والتفرق دون أن يلكزها بعصا، فكان الإنشاد لها يسبح في بحر الرجز (حمار الشعراء) لسهولته ويسره وانقياده، مما دل على أن النغم فطرة في الرجل العربي سواء أأتى بشعر المفلقين أو لم يأت به إذ يكفيه السماع لرهافة أذنه التي تستطيع إدراك جمال النغم فتستمرؤه ومعرفة النشاز فيه فتمجه وتقف منه موقف الإنكار.

 

ولذا فالشاعر العربي لانحكم عليه بالكمال الشعري والإجادة إلا حينما يعنى بالصوت عنايته باللفظ المصيب للمعنى عبر تصوير بديع يقدم فيه الجدة، وينأى عن الاجترار وتكرار ما سبقه إليه الأولون وهذا ما كان كبارهم يحاولون صنعه، وإن تدوولت المعاني وطرحت على الطريق كما ذكر ذلك الجاحظ لما قال: ” المعاني مطروحة على الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وصحة الطبع وكثرة الماء وجودة السبك وإنما الشعر صياغة وضرب من النسج وجنس من التصوير”[3]، فلابد من التجديد في المعنى والإتيان بالمتفرد الذي لم يسبق إليه وذلك في أبهى حلة وأجمل بنية، يتكامل فيها اللفظ والمعنى وليس مجرد اتفاق للفظ في موضعه عبر تأليفته الصوتية وهذا ما عناه الجرجاني بقوله: ” ولما أقروا هذا في نفوسهم حملوا كلام العلماء في كل ما نسبوا فيه الفضيلة إلى اللفظ على ظاهره وأبوا أن ينظروا في الأوصاف التي أتبعوها نسبتهم الفضيلة إلى اللفظ مثل قولهم: لفظ متمكن غير قلق، ولا ناب به موضعه، فيعلموا أنهم لم يوجبوا للفظ ما أوجبوه من الفضيلة وهم يعنون نطق اللسان وأجراس الحروف “[4]، وهذا يعني أن العرب كانت تمتلك الحدس القوي المحكوم بالسليقة، فتدرك مواضع استعمال اللفظ ودرجات قدرته على التبليغ في إطار تحكمه بلاغة الخطاب، فكان الشاعر المجيد من أتى باللفظ في موضعه مناسبا للمعنى، بل وبالصوت متسقا في بنية اللفظ متوائما مع الدلالة الشعرية، فيأتي الشاعر بالأصوات مفخمة مجهورة في مواضع الشدة كما في قول عنترة:

 

وفي قول شعري آخر يقول:

تظهر الحروف المجهورة قوية في هذه الأبيات مثل الخاء والقاف والباء والطاء والدال والهاء، لمناسبتها للمقام الشديد الحامل للتوعد والمعلن عن الشجاعة وقطع الرؤوس.

 

ولننظر الآن في قول شوقي:

 

تظهر في البيتين وعلى امتداد القصيدة التي جعل رويها سينا يتردد في كثير من أبياتها مع مشاكله الصاد ليدل على الحنين والشوق للوطن، حنين عبر عنه بحرف السين المهموس وحروف المد التي تتلاءم وحزن وألم الشاعر وهو في منفاه يقاسي مرارة فراق الأهل والوطن.

 

وهذه النماذج البسيطة التي سقناها على قلتها إنما هي شريحة صغيرة تمثل نماذج كبيرة من شعرنا العربي عبر عصوره المختلفة، كان للصوت فيها حضور قوي باعتبار مقدرته على التغلغل إلى بواطن الوجدان وملامسة شغاف القلب، ومخاطبة العقل ومحاورته لمنح القوة التعبيرية للبيت أو السطر من القصيدة، لذلك شكل الصوت في بنية القصيدة العربية جزءا قويا من أجزاء تشكيل الدلالة التعبيرية والبلاغية التي يقصد إليها الشاعر المجيد المفلق، فيحسن بذلك تخير اللفظ المناسب للمعنى الشعري فينتقي أجوده وأحسنه مما يزدحم في صدره، والباني للنغم الجميل الذي تستحسنه الأذن، فيأتي بالمهموس في مواضع الهمس وبالمجهور غالبا على غيره في مواطن الجهر والقوة فيتواءم الصوت والمعنى ويتفقان للدرجة التي تجعل المتلقي ممعنا في ذهول إلى ملكة شهرية فائقة النظير.

 

إن الصوت في القصيدة العربية لا يسهم في تشكيل الدلالة فحسب، فهذا جزء من سحر العربية ومن بلاغتها الفائقة، التي يقوم فيها تشكل الصوت على تلوينات متعددة تمتح من البديع العربي كالجناس، والتقفية وتنهل من التشكيل البنيوي كالتكرارات الصوتية واللفظية والجملية، ومن التساوي الصرفي للبنيات اللفظية ومن التوازي ومن الجناس الاشتقاقي والإنشاء، وإنما يعمل على تشكيل البنية الإيقاعية جنبا إلى جنب مع البحر الشعري والروي الموحد والتصريع والتدوير وغيرها من الأشكال العروضية في القصيدة العمودية و تعدد البحور والتدوير والإبدالات والتوازيات والبنيات الأسلوبية الإنشائية في القصيدة الحديثة، فلابد أن دوره حاضر في الإسهام في تشكيل البنية الإيقاعية التي تتظافر فيها عناصر كبرى تكون ظاهرة للقارئ، لكن العنصر الصغير(الخفي أحيانا) أو (المهمل في عرف القراءة)، ينسى ولا يلتفت إليه إلا في روي القصيدة العمودية، وكأنه الكل الذي تنتهي عنده القصيدة، فيكون الصوت المشكل للفظ والتركيب عموما غائبا في التمثل الشعري لدى القارئ العربي، لأن كل ما يشد الانتباه هو المعنى الذي يقصد إليه من البيت دون أن ينظر إلى الأجزاء الصغيرة التي شكلته وأسست لبناته، ولا أريد من هذا الكلام أن يحمل على أنه تجريح للقارئ، فالدرس الصوتي ظل على الهامش لقرون ولم ينفذ إلى بواطنه حتى جاء ابن سينا وكتب رسائله المعروفة خاصة رسالة أسباب حدوث الحروف، لينطلق الدرس الصوتي إلى مستوى أعلى متجاوزا حدوده البسيطة التي رسم معالمها الخليل بن أحمد ومن جاء بعده، لذلك فالقارئ العربي لا يلام على عدم تمثل قيمة الصوت في تشكيل البنية الدلالية والإيقاعية معا بشكل متواز، دون أن يطغى أحدهما على الآخر، وهنا تتدخل القوة الشعرية والقريحة التي تميز بين الشعراء وتجعلهم يتصنفون إلى طبقات رغم أن صاحب الطبقات ابن سلام الجمحي أقام تصنيفه على أسس نقدية لا أظن أن الصوت كان له فيها دخل، لأن كل الأمر كان يقوم على الحدس وليس على أسس نظرية علمية، وهذا أمر دأبت عليه العرب في الحكم على الجودة والضعف في البيت من الشعر مثلما وجدنا عندهم في بدايات تشكل الدرس النقدي عبر تلك الأحكام القيمية التي كانوا يصدرونها في حق الأشعار وأبياتها، حدس نابع من الفطرة والسليقة التي جبلوا عليها وهي نفسها التي جعلتهم في زمن الوحي يتذوقون بلاغة القرآن ويجدون له تلك الحلاوة والطلاوة ويستشعرونها في دواخلهم مدركين الاختلاف بينه وبين الشعر وسجع الكهان والخطابة عندهم.

 

لذا فرؤيتنا للقصيدة العربية هي رؤية تنعتق من البنية المقطعية على الرغم من الاختلافات الجوهرية في تحديد مفهوم المقطع عند اللغويين واللسانيين، لاختلاف المنطلقات اللسانية بين من يرى بعدها الوظيفي ومن يرى جانبها المادي الهيكلي وبين من ينظر في الجانب النطقي ولا يتعداه إلى غيره، هذه البنية التي نتحدث عنها هي ما يتشكل من وحدات صوتية صغرى، هي تلك المكونة من صوامت وحركات تنتظم بينها لتؤلف وحدات كبرى، لذا فمنطلق حديثنا ينبثق من روح الوحدة الصغرى البسيطة قبل تشكيلها للمقطع الصوتي، لأن التأليف الفونيتيكي وتناسقه في بنية اللفظ واتساقه في التركيب كله، وتحقيقه للسلاسة والسهولة في المخرج، وموافقته للدلالة الشعرية هو ما يجعل الشعر صناعة حقيقية كانت تعيق فحول الشعراء، فتجعلهم ينقحون كل عام كزهير بن أبي سلمى، ويخطئون في استعمال اللفظ كمن استنوق الجمل فعبر عنه بالصَّيْعريَّة، وغير ذلك من ملاحظات النقد القديم، ومنهم من كان البيت ـ لا القصيدة ـ يُشَقُّ عليه كجرير الذي كان يقول: ” قد يمر اليوم وتمر الليلة دون أن أنظم بيتا واحدا من الشعر “، ولعل هذا ما جعل أبا هلال العسكري يكتب كتابه ” سر الصناعتين ” الشعر والنثر، مبرزا مواضع الصناعة في كلا الفنين، وهي لابد أن تتأسس على ضوابط وقواعد لا يمتلكها إلا ذوو القريحة العليا والملكة المتفتقة والحس المرهف والدربة العالية، مما يجعل التأليف الشعري صعب المراس، لا تتحقق صورته المتكاملة إلا باجتماع ما يشكل البنية اللغوية من أصوات وألفاظ وتعابير ومعان وإيقاع، كل هذه الأجزاء تتداخل في بنية صغيرة الحجم يحكمها بحر شعري ويحكم قبضته عليها مانعا إياها من التململ، مقيدا هذا الشاعر وخانقا أنفاسه دون أن يتمكن من تقييد حريته الفطرية أو يخنق أنفاسه كليا لأنه مجيد يعرف كيف يلتقط الأنفاس وكيف يخلص يديه من قيد الصناعة دون أن يخرج عن ضوابطها فيأتي بالأجزاء مشكلة في براعة شعرية قل لها النظير تمنحه وسام التميز، فهو شاعر أجاد انتقاء الأصوات قبل الألفاظ وأبدع في نظمها كما ينظم صاحب العقد عقده، ينظم خرزها بإحكام صنعة لتبدو في أجمل صورة، فألفها تأليفا بديعا ترابطت فيها العناصر والوحدات فمنحت اللفظ قوته إلى جانب غيره فاتسق التركيب كله واتزن في توافق مع الدلالة ليصنع بيت تلو بيت يمنحك عينا من عيون الشعر العربي تستمتع أذنك بخرير مائها المنساب وتغترف منه زلالا يروي ظمأك ويشفي غلتك لجميل الإبداع وأنيق التعبير الشعري.


[1] أبو الفتح عثمان بن جني الخصائص ج 2 تحقيق محمد علي النجار دار الكتاب العربي لبنان بيروت لبنان ص 160.

[2] المرجع السابق ص 158.

[3] أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ البيان والتبيين ج 2 تح محمد عبد السلام هارون ط1 مكتبة الخانجي ص 114.

[4] عبد القاهر الجرجاني دلائل الإعجاز مكتبة المدني ص 234.