منوعات

مشروع المجتمع الجزائري.. بين الرشاد والتيه!

مشروع المجتمع الجزائري… بين الرَّشاد والتِّيه!

 

إن من عوامل تفكك الشخصية الجزائرية المعاصرة واضطرابها، وتناقض مكوناتها ومسلكياتها، هو الدور السلبي الذي تلعبه الترسانة الإعلامية والمنظومة التربوية في إعاقة التكوين الفكري والديني، والعلمي والأخلاقي للفرد الجزائري، وسعيها إلى إحداث شروخ بالغة في النظام الفكري والاجتماعي والأخلاقي للمجتمع، ذلك النظام العتيد الذي مكنه من الصمود أمام جحافل المحتلين، وحملات التنصير، والمسخ والفسخ، والتصدع لعهود طوال، بالرغم من تواتر الخطط والمكائد لإعادة تشكيل هويته ومرجعيته، وضرب أصوله الثقافية والدينية واللغوية، غير أنها كانت تتهاوى مرارًا أمام صخرة الشخصية الجزائرية العصية على التغريب والتنصير والانحلال.

 

إلا أن الإسفاف الذي يعانيه المشهد الإعلامي الجزائري في الآونة الأخيرة، والحرب المستبطنة على الأخلاق والدين التي تشتد وتمتد من سنة لأخرى، خاصة في شهر رمضان، والتي من خلالها تسعى وسائل الإعلام إلى ترويض الفكر والسلوك والطبائع على ثقافة هجينة متبلدة بائسة تائهة، لا تستمسك بأي أصل، ولا تُسْتَمَدُّ من أي سماء، ولا تؤسس لأي نبل وارتقاء، فأغلب ما يبث عبر السلاسل البرامجية المخصصة لشهر رمضان اتفقت على ما يلي:

الجرأة على القيم الإسلامية والاستهزاء بأصول الدين وما لا يعذر مسلم بجهله.

 

التهشيم المتعمد لأصول الحشمة والحياء، والترويج للقبح وأخلاق المنحلين، تحت مسمى الفن ومحاكاة المجتمع، وفي حقيقتها هي محاكاة لأراذل المجتمع!

 

التجاسر بكل صفاقة وقلة أدب على رموز المجتمع وفضلائه، وتحويلهم إلى مادة للتندر والتهكم؛ كالمتدينين والأساتذة، والشباب المتخلق والمرأة العفيفة.

 

بؤس وضحالة المحتوى الإعلامي واللغوي والفكري بما لم يسبق له مثيل.

 

استضافة رواد النوادي الليلية ومغني الملاهي والخمور والمخدرات، ومقدمي المحتوى الفاحش (لا الجريء) والمخنثين، وتمكينهم من المنابر الإعلامية باعتبارهم مؤثرين ونماذج للنجاح.

 

تركيز الأنظار على الأغمار وتعمد طمس الكبار، خاصة في علوم الشريعة الإسلامية، والتمكين لضعاف البضاعة من منابر الفتوى ومناقشة مسائل العامة، والترويج للدروشة والدجل باسم الدين!

 

كل هذا وأكثر يمثل انزلاقًا خطيرًا للمشهد الإعلامي الجزائري، ومسايرةً مفضوحة للخط الإعلامي المنتهج في عدة منابر إعلامية عربية، التي تأسست كطرف وكيل عن الغرب لإحكام خطة تزوير فطرة مجتمعاتهم، وتحريف معتقداتهم وتاريخهم، وتدمير أخلاق الشباب، وسلخ الشعوب من حضارتها وانتمائها ورميها في متاهة اللاأمة واللاحضارة واللادين واللامبدأ واللاأخلاق.

 

لقد أسهم هذا الخليط الإعلامي الممجوج في صناعة فرد منافق دينيًّا، مضطرب فكريًّا، ضائع أخلاقيًّا، كما أن خطره يستهدف أكثر الناشئة التي لا تملك قاعدة عقائدية وفكرية قوية وسليمة، إن هذا التيه الذي يحياه المجتمع وسط متاهة الحداثة المنسلخة والعلمنة المتوحشة، يرجع إلى غياب إطار قيمي مرجعي واضح وصريح يحدد المعالم الحضارية لمشروع المجتمع الجزائري، وآليات تجسيده، وعلى حد تعبير المفكر مالك بن نبي رحمه الله غياب “الفعالية والحركة في إطار الزمان والمكان”.

 

فقد تحدث ابن نبي في كتابه “ميلاد مجتمع” عن الشروط الموضوعية والتاريخية لنشوء “المجتمع” مفرقًا في غاية الدقة بين مصطلحي “المجتمع” و”المجموعة البشرية”، التي وصفها “بأكداس بشرية”؛ لأنها لا تمتلك صفة “الحركة” و”الدافعية” نحو التقدم والعمل والتغيير، هذه الحركة التي لا توجد إلا من خلال “الفكرة الجامعة للنسيج الاجتماعي”، التي تنصهر فيها إرادات الأفراد باتجاه تأسيس المجتمع وتوجيه طاقاته نحو النهضة والبناء.

 

ومن المؤسف عندنا في الجزائر أن مجتمعنا يفتقد لصفة الحركية والفعالية وروح المبادرة، وهذا ما يتجلى في استشراء منطق التبرير على منطق العمل وجودة التفكير، وسيادة صفة القدرية والاتكالية والأنانية والفردانية، أن يحرص كل فرد على التبرم من مسؤولية الإصلاح وتغيير المنكر ورميها على غيره، مع اختلاق المبررات لإعفاء نفسه من تبعات المساءلة، كنوع من التعلل الساذج الذي يُرضي به ضميره الميت ويريحه مؤقتًا بالوهم الزائف!

 

هذا المسلك الأعرج في الفكر والسلوك جعلنا نركن إلى الخمول والرضا بالحال وانتظار قدوم المخلص، وعدم الإيجابية والمبادرة لتغيير الواقع القريب منا، انطلاقًا من البيت والحي والشارع الذي نمر عليه يوميًّا ومكان العمل والمحيط البيئي، والسبب في ذلك هو اضمحلال الروابط الاجتماعية والأسس القيمية التي كانت في يوم ما تمثل لنا “المقدَّس”، الذي نفديه بأرواحنا ونذود عنه بمهجنا، كالأمانة والعمل الجماعي، واحترام الجار والشيخ الكبير والمرأة، والتشارك في تربية الأبناء، وتوقير أهل العلم، والتعاون على صنائع المعروف، وإطعام الجائع، وإيواء الضائع، واحترام المناسبات الدينية والمرجعيات العلمية والوطنية، والإحساس بالانتماء إلى وطن يحمينا، ويعكس هويتنا الحقيقية التي مَهَرَهَا الملايين بأرواحهم، فصرنا نمجد أهل الضَعَة – السفه – على أهل العلم والمحبرة، ونسوِّد لسياساتنا العامة كل من به عوج، ونخذل أهل الكفاءة والمهارة، فتاهت بين الملاعب وكرة الأقدام مقاصدنا، وتسفهت بين مسارح اللهو والتفاهة أحلامنا.

 

إن هذا الوضع المشوه للبيئة الفكرية والثقافية والأخلاقية في بلدي لا يمكن أن يبعث على الفتور والتيئييس، ألم تفعل فرنسا أعظم من ذلك وأقبح؟ ألم تقتل في الجزائر كل جميل؟ ومع ذلك استطاع رواد المعرفة والفكر إعادة هندسة الفكرة الجزائرية الأصيلة، وبعثها من أجداث النفس المنهزمة والروح المتبلدة، لتعيد للمجتمع الجزائري رابطته التي عمل المخرب الفرنسي على تبديدها؛ عملًا بقاعدته الشيطانية “فرِّق تَسُد”.

 

وإذا كان العلماء هم ورثة الأنبياء، وأن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم، فمتى أدرك العالم في بلدي أنه أهلٌ للوراثة العلمية لا المادية، وسعى بكل صدق إلى بعث روح الوعي في الأجيال المتعاقبة، ونصح للأمة ولم يركن إلى الجهة الآثمة، فعندها لن يطول أمد المحنة، وسينجلي أُوَارُهَا بأزكى منحة، وسيتَفرَّى الليل عن صُبحِه، ويكشف الغمام عن وَبْلِهِ، ولكن الخوف كل الخوف أن يصبح حامل العلم حِلس خمول لا باني عقول، وأسير درهم ودينار، لا محرر أنفسٍ وأفكارٍ، ومدَّاح أسواق، لا عالم آفاق، مستمطرًا منائح الحُكَّام، ومستغفلًا لألباب الأنام، وصريعًا أمام أبواب اللئام، ضيقَ العَطَنِ لا كَيِّسًا ذا فِطَنٍ، نديم المسكنة والدَّعَةِ، لا رائدًا للفكر والمنفعة، مستسمنًا ذا وَرَم، ونافخًا في غير ضَرَم، ونصيرًا لمن هدم الحق وصَرَم، فعند ذاك حُقَّ الرثاء على صفقة الغبن والبلاء، والعيش في زمن العجفاء والعرجاء والعوراء، وصدق مَنْ قال مِنَ الشعراء: