التخطي إلى المحتوى

ما تعارف منها ائتلف

ابني الحبيب: تحية إليك مباركة من قلب ألّفه الله إليك مذ رأيتك…

 

أكتب إليك اليوم وليس في ذهني رسالة واضحة أبثها إليك، غير أني أشعر بريبة تلقي ظلالها من حولك، وهذا والله يؤذي قلبي جدًّا، لأني أعرفك جيدًا وأعرف أنك لا تعرف أنصاف الحلول ولا أنصاف العطاءات، فكل شيء تقوم به تقبل عليه بكلك، وتضع فيه بعد التوكل على الله كل طاقتك ومهاراتك، وهذا وربي يثير الضغائن حولك، ويؤذي الطفيليين الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فضلا عن أنه يثير الخوف في قلب العاجز الذي لا يرى في الدنيا سوى كرسيه، فإن زحزح عنه كان كمن زحزح عن الجنة وأدخل النار، أعيذك ونفسي أن نكون من عبّاد الدنيا مثلهم…

 

لا أحب أن أسرد لك النصائح ولكني أحب أن أسجل هنا كيف أسرت قلبي بكلمة، أتتذكر يوم كتب كل واحد من الفريق كلمة للآخر دون أن يوقع باسمه، أأتذكر ماذا كتبت؟، إنني أتذكر جيدًا، ومازالت القصاصة الصفراء التي كتبت عليها عندي تفوح منها رائحة الودّ، ومذ تلك اللحظة وأنت ابني المعجِب الذي سألت الله أن يرزقنيه، لقد كتبت: (كنتُ أشتاق لأمي – رحمها الله – ولكني الآن أراها كلما رأيتُك) كانت هذه الأحرف ميثاق حبٍّ جعله الله بيننا، ومذ تلك اللحظة بدأت أرقبك عن بعد، وكلما أدرك عقلي مبادئك أو وقع بصري على سلوك ترحمت على والدتك ودعوت لمن ربّاك.

 

أخذ بلبي صوتك وأنت تتلو كتاب الله بصوت شجي آسر، وملأ الحبور قلبي وأنت تجمع الشباب للصلاة جامعة في وقتها، وأعلاك في قلبي يدك التي تحجب بها عن عينك رؤية النساء… وبين هذا وذاك مهارة في العمل وسرعة في التطور مذهلة، يحضرني مشهد أول مرة أزورك في صفك فكنت قطعة سكر سقطت في قرية نمل، تمسك بأوراق ترفعها بكلتا يديك للسقف وحولك الأطفال يمسكون ثيابك وأنت تحاول جاهدًا ضبطهم في أماكنهم ويأبون ذلك إلا أن يفوزوا منك بلعبة أولا… وما إن تنقضي أشهر قليلة حتى تصبح فارس المكان وأفضل معلم فيه بلا مجاملة ولا منافسة.

 

لمست بيننا صفات مشتركة كثيرة منها السلبي والإيجابي، وبناء على تجربتي لا أحب لك أن تقع فيما وقعت أنا فيه، فلا تقدّم الحياء في تعاملك مع الناس بل قدم العدل، اللهمّ قلة قليلة هي تستحق أن تقدم معها الحياء وهؤلاء بداية لن تجد منهم تقاعص ولا صدام يوجب تغير حالك معهم، لا تفترض نقاء نية الآخرين لأن النفوس انطوت على الغيرة والحسد ناهيك عن التنظير والجدل، وخالق النفس هو الأعلم بها، هلّا تدبرت دعاء نبينا صلى الله عليه وسلم صباح مساء: ( يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) هذه هي النفس من أصخى لها طرفة عين أهلكته، فما بالك بمن يملّكونها أمرهم ويضيفون لذلك بهارات سوء الظن وهوى النفس والتسلط…

 

عندما تبدأ النبتة في الذبول تجف جذورها وتصبح مدببة ومؤذية ويسيطر عليها الخوف من أن تصبح طعاما للهب، فتؤذي من يطؤها، فانتبه أين تضع قدمك! ولا تتواضع لمن لا يعطيك قدرك ففي ذلك إفساح لسفاهة السفهاء، ولا تتنازل عن حق هو لك فتصبح مطمعًا للقاصي والداني…

 

لا تتوانَ عن صنع بطانة صالحة لك ممن ترتضي دينه وليس ممن يجيد ترويج نفسه دون عطاء حقيقي، ولا تنخدع فيهم لأنهم هم الألمع في كل محيط دائمًا ولكن كشفهم سهل لا يخفى على فطين مثلك!

 

أكثِر من المدح وشكر من يستحق، فذلك الحافز السحري غير المكلف ودافع المنافسة البناءة، وكاتم دخن الأنفس من حولك، أعلم أن ذلك صعب كما أعلم أنك ذكي وموفق بإذن الله!

 

لا تعط الدنية من نفسك أبدًا، فهذا والله بخس لا أرضاه لمثلك وإن كان غريبا، فما بالك بك وأنت من أنت!، وتذكر قول سيدنا حبيب الله صلى الله عليه وسلم لذي النورين: (يا عثمان، إن اللهَ مُقَمِّصُك قميصًا، فإن أرادك المنافقون على خَلْعِهِ فلا تَخْلَعْه )، فتثبيت سنة سيئة بين الناس سلوك مزرٍ! وخلعك لهذا القميص تثبيت لهذه السنة المزية!

 

إما أن تحتفظ بمكانتك وإما أن تترك المكان، نعم! أنا التي قلبها معلق – بعد الله – بك أقول لك هذا، ويشهد الله أن المكان بدونك عندي قفر، فلا أمان ولا حسن ظن.. ولكن كرامتك أحب إلي!

 

وأذكرك بأنه رغم كل هذه الأعباء والصراعات فإن نجاحك الحقيقي لن يكون إلا بأن تحتفظ بطفولة قلبك التي تميزك وسط هذا البحر الهادر بالخذلان المسمى دنيا! أعلم أنها معادلة صعبة حقا ولكنها يسيرة على من يسرها الله عليه، ولا أحسبك إلا على خير وأن الله عزّ وجل لن يخذلك.

 

وأعيذك بالله أن تستجيب لوهمهم بأن العمل والنجاح فيه وسرعة التطور وزهو القيادة هو النجاح الحقيقي في دنيانا، لا ورب الكعبة فما يبلغ العمل عُشرَ منافذ السعادة والنجاح في الدنيا، فلا يعدو أن يكون نافذة يلقى لنا من خلالها رزقًا الله قدره في سابق علمه، بل المبالغة في جعله مقياس نجاحنا يثنينا عن غاية وجودنا في هذه الحياة، كم هو مقيت ذلك النموذج الغربي والياباني الذي يجعل النجاح في العمل هو غاية في ذاته، فيتحمل من الضغوط ما يؤدي ببعضهم للانتحار رغم عدم الحاجة المادية لهذه المبالغة، بل أظن في أحيان كثيرة أن العمل لديهم تحول لإله يعبد!، فينسوا لأجله متعة الزوج والولد والخلوة بالله عزّ وجل ومجالسة الأصدقاء وارتياد المساجد والتريض.. والأخذ بحظنا الطبيعي من المتع الحلال، ومن أعظم هذه المتع دعوة أخصك بها بظهر الغيب تحمل في ثناياها الرجاء لك بكل خير سأله نبينا صلى الله عليه وسلم لربه وأعيذك من كل شر استعاذ منه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم…

 

ستظل نموذجًا صالحًا أرجو الله أن يثبته وينفع به عامة المسلمين.