منوعات

“فنلنديا” لجان سيبيليوس، الفن وبناء الأمة – فياض معالي

مقدمة تاريخية

   لم يكن عمل جان سيبيليوس مُجرد صفحة مشرقة في تاريخ الثقافة الموسيقية في فنلندا على حد تعبير الناقد كارل فلودين “Karl Flodin“، إذ تجاوزت شهرة الملحن حدود وطنه، حيث ازدهرت موسيقاه في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وهو زمنُ تنامي حركات التحرر الوطني في أوروبا والحركة الثورية في فنلندا. كانت هذه الدولة الصغيرة في ذلك الوقت جزءًا من الإمبراطورية الروسية وشهدت نفس الحالة المزاجية في حقبة ما قبل العاصفة للتغيير الاجتماعي.

من الجدير بالذكر أنه في فنلندا، كما في روسيا، تميزت هذه الفترة بظهور فكرة الفن القومي الذي امتاز بالتركيز على العناصر الموسيقية الوطنية مثل استخدام الأغاني الشعبية، والرقصات، والإيقاعات، أو على تبني مواضيع قومية في الأعمال الفنية عموماً. كانت القومية في الموسيقى بمثابة رد فعل ضد هيمنة التقليد الكلاسيكي الأوروبي السائد، حيث بدأ الملحنون في فصل أنفسهم عن المعايير التي وضعها الإيطاليون والفرنسيون والتقليديون الألمان على وجه الخصوص: هايدن، بيتهوفن وفاغنر.

أعمال سيبيليوس الأكثر شهرة ساعدت فنلندا على تشكيل هويةٍ وطنية للبلاد، وقد تسأل نفسك هنا، كيف لمقطوعةٍ موسيقية أن تُشكل هويةً وطنيةً لأمةٍ مُحدثة؟

في الواقع، لم يكن لفنلندا تاريخٌ مجيدٌ كأمة. لذلك كان يُنظر إلى الفنون والثقافة على أنها أدوات مهمة لبناء الأمة ورفع مكانتها بين الأمم. لفهم هذا بشكل أفضل ينبغي علينا النظر الى الاحداث السياسية في فترة سيبيليوس، حيث أن فنلندا لم تكن قد صارت بلدًا بعد.

نتيجةً للحروب الصليبية الشمالية ضد الشعوب الوثنية [هامش¹] أصبحت فنلندا تدريجياً جزءًا لا يتجزأ من السويد، إذ تم استعمار بعض المناطق الساحلية الفنلندية بما في ذلك العاصمة القديمة توركو، واصبحت فنلندا بالكامل بعد ذلك جزءًا من مملكة السويد المسيحية ودائرة نفوذ الكنيسة الكاثوليكية؛ وكنتيجة للغزو السويدي، فقدت الطبقة العليا الفنلندية موقعها وأراضيها أمام النبلاء السويديين والألمان الجدد والكنيسة الكاثوليكية.

في السويد حتى في القرنين السابع عشر والثامن عشر، كان من الواضح أن فنلندا كانت دولة محتلة ويمكن معاملة سكانها بشكل تعسفي. ونادرًا ما زار الملوك السويديون فنلندا، وفي النصوص السويدية المعاصرة، تم تصوير الفنلنديين على أنهم بدائيون ولغتهم أقل شأناً. وعليه فقد أصبحت اللغة السويدية هي اللغة السائدة للنبلاء والإدارة والتعليم؛ كانت اللغة الفنلندية في الأساس لغة عامية للفلاحين، والقبائل البدوية، ورجال الدين والمحاكم المحلية في المناطق ذات الأغلبية الناطقة بالفنلندية، لذلك كان من الأهمية بمكان أن تصبح اللغة الفنلندية – وهي لغة غالبية السكان – لغة الفنون والعلوم في فنلندا.

في الوقت الذي بدأت فيه القومية الفنلندية بالصعود – في أوائل القرن التاسع عشر – كانت المفردات لا تزال محدودة، واللغة بدائية. وفي سبيل تطوير اللغة، كان أحد الأهداف الرئيسية هو العثور على معادلات فنلندية للكلمات والعبارات الدولية بدلاً من مجرد استعارة كلمات من لغات أخرى. زاد هذا العمل الشامل والمتسق من صعوبة دراسة اللغة الفنلندية، وعليه فقد كان أحد أهداف بُناة الأمة الفنلندية إنشاء الأدب الوطني. كان الأدب الفنلندي الذي تم إنشاؤه في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين مستوحى من الأعمال الأوروبية، لكنه لم يحظ باهتمام دولي كبير قياساً بأعمال اخرى كانت مستوحاة من الهوية الفنلندية الخالصة [هامش²]

استمر هذا الوضع قائماً حتى الغزو الروسي لمملكة السويد عام 1808م حيث أصبحت الأراضي التي تنازلت عنها السويد لروسيا تُعرف بدوقية فنلندا الكبرى “Grand Duchy of Finland”، عندما وعد الكسندر الأول الفنلنديين بأن بلادهم سَتبقى مُستقلةً تحكمها قوانينها الخاصة التي يختارها الفنلنديون بأنفسهم، وأن هذه القوانين ستظل ثابتةً ولا تُمس.

ظلت هذه الاتفاقية قائمة حتى عام 1899م عندما بدأ القيصر الروسي نيكولاس الثاني في ممارسة الهيمنة على فنلندا؛ مع ازدياد تنامي الفكر القومي الانفصالي فيها. وتوجت تدخلاته بإصدار مجموعة قوانين جديدة أصبحت تعرف ب إعلان فبراير (February manifesto of 1899). نَصَ الإعلان على أن يصبح الروبل الروسي العملة الرسمية لفنلندا، والروسية اللغة الرسمية للبلاد، وستخضع بموجبه كل من الصحافة والصحفيون لهيئة رقابة روسية على النشر، كما أن الكنيسة الروسية الأرثوذكسية ستصبح الكنيسة الرسمية للدوقية.

رأى الفنلنديون في الإعلان تعديًا على حقوقهم في الحكم الذاتي، ومحاولةً لتدمير الهوية والثقافة الوطنية الفنلندية. وكردِ فعلٍ على الإعلان ابتكر العديد من الفنانين أعمالًا فنية احتجاجية، أشهرها حتى ذلك الوقت لوحة “الهجوم” للفنان إدڤارد إيستو “Evard isto”، يَظهر فيها نسرٌ برأسين يُمثل الإمبراطورية الروسية وهو يُمزق كتابَ قوانين بين ذراعي فتاة شابة. والتي هي تجسيدٌ لفنلندا. اشتهرت اللوحة في ذلك الوقت لأنها أصبحت تُمثل مُقاومة الشعب الفنلندي.

“فنلنديا”، ميلاد العمل

في خريف عام 1899م تم الاحتفال بالعاصمة (هلسنكي) العظيمة، عاصمة دوقية فنلندا الكبرى. كان هذا الاحتفال هو الإجراء الأخير لحملة وطنية: احتج فيها الفنلنديون على هجوم الأوتوقراطية الروسية على الحقوق الديمقراطية ودافعوا فيه عن حرية الصحافة والحق في تقرير المصير.

في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، استضاف المسرح السويدي عرضاً خيرياً يَهدف إلى تسليط الضوء على الفن والهوية الشعبية لفنلندا، مُثِلت فيه “المشاهد التاريخية” مع أشعار وموسيقى من عصور مختلفة من حياة البلد، أعد المسرحي كارلو بيرجبوم “Kaarlo Bergbom”، وصفًا تاريخيًا وطنيًا فنلنديًا من ستة أجزاء للإحتفال، وكتب إينو لينو “Eino Leino” وجالماري فين “Jalmari Finne”، نصًا عاطفيًا ووطنيًا للخلفية. وقام جان سيبيليوس بتأليف الموسيقى لسلسلة المشاهد التي تغطي مراحل مختلفة في التاريخ الفنلندي منذ فترة كاليفالا [هامش³] تم انتقاء المشاهد بحيث تكون إعلاناً مضاداً للإعلان القيصري:

مُقدمة: أندانتي حركة متهادية.

  • – الفصل الأول:أغنية فينامونين [هامش⁴]
  • – الفصل الثاني: الأسقف هنري يُعمد الفنلنديون.
  • – الفصل الثالث: مشهد في بلاط الدوق جون الثالث
  • – الفصل الرابع: الفنلنديون في حرب الثلاثين عاماً.
  • – الفصل الخامس: أيام الغضب العظيم.
  • – الفصل السادس: فنلندا تستيقظ.

كانت الاحتفالات بمثابة إسهام لمقاومة زيادة التأثير الروسي على البلاد. وقد وصلت الموسيقى ذروتها في خاتمة مُثيرة وطنية بعنوان “فنلندا تستيقظ”.

أصبحت هذه الخاتمة أشهر عملٍ موسيقي لجان سيبيليوس، ونظرًا لأهمية الظروف التي كُتبت فيها، صارت المقطوعة رمزًا للوحدوية الوطنية ونشيداً وطنياً ثانياً لفنلندا. إنه في الواقع مقطع يوضح الصحوة المتزايدة للمشاعر الوحدوية للشعب الفنلندي بأكمله، الخاضع لنير الإمبريالية الروسية.

أراد سيبيليوس تأليف شيءٍ كلاسيكي يُمكن للفنلنديين التعرف عليه بسهولة، لكنه في الوقت نفسه لم يرغب في إنشاء رقصة شعبية. سمحت عبقريته لشيء وطني أن يَتشابك مع هويته الشخصية كمؤلف كلاسيكي.

العنوان الأول الذي تم مَنحه للتكوين كان “فنلندا تستيقظ”، لكن الروس اعتبروه سلبيًا ولا يراعي قوانين النشر، ما دفعهم إلى حظر عرضه في الأماكن العامة، وعلى ضوءِ ذلك وَجد سيبيليوس نفسه مضطراً إلى تغيير اسم المقطوعة عدة مرات للسماح بعزفها: مارش الكورال الإسكندنافي، أفكار سعيدة أثناء الاستيقاظ (من فنلندا)، وفي النهاية مع تنقيح العمل عام 1900م صار يعرف بالقصيد السيمفوني “فنلنديا”.

ترتبط النسخة النهائية من القطعة ارتباطًا وثيقًا بحدث مهم جدًا لمسيرة جان سيبيليوس، خاصة فيما يتعلق بشهرته الدولية، عندما تم تقديم المقطوعة في المعرض العالمي للفنون في باريس عام 1900م. بعد نشر بيان فبراير، قام عدد كبير من المفكرين الأوروبيين بالتوقيع على عريضة إلى القيصر يطالبون فيها بعودة الحكم الذاتي إلى فنلندا. من الناحية السياسية، لم تكن هذه الجهود والعديد من الجهود الأخرى التي استفادت منها المقاومة الفنلندية السلمية ذات فائدة كبيرة. على العكس من ذلك، في عام 1900م تم فرض اللغة الروسية كلغة إدارية وكان الحق في التجمع محدودًا. ومع ذلك، قدم نيكولاس الثاني، الذي لم يرغب في الحصول على صورة دولية سيئة، تنازلًا رمزيًا من خلال السماح لجناح فنلندي منفصل عن الجناح الروسي في المعرض العالمي. لم تُهدر القومية الثقافية هذه الفرصة، وانضم الفنانون الرئيسيون للبلاد إلى المشروع الذي نظمه الرسام ألبرت إدلفلت ، في هذا المعرض قدم سيبيليوس مقطوعته التي حظيت بإعجابٍ كبير تحت قيادة المايسترو الشهير روبرت كاجانوس واوركسترا الجمعية الفيلهارمونية الفنلندية، وفي هذا الحفل أعلن للعالم أن فنلندا لديها ثقافة تستحق القتال من أجلها، وبفضله وبفضل عديد من الفنانين بدأت فنلندا تخرجُ في مطلع القرن العشرين الى العلنية وتحظى باهتمام عالمي متزايد حتى توج هذا الحراك بالاستقلال.

تحليل

في القصيد، سَمح سيبيليوس بالتعرف على كل مجموعةِ أدوات وتألقها على حِدة، عبر تقسيم الأصوات ومجموعة الآلات إلى أقسامٍ ومراحلٍ مُتباينة، ومن ثم تَتحِد وتنتهي معًا في انفجار لحني مذهل. وكما هو الحال في أي قصيدة سيمفونية، فإن المعنى (غير الموسيقي) للقطعة يَسمح لها بإعطائها شكلها الموسيقي.

على الرغم من أن نُسختها الأولى كانت مكتوبة للموسيقى العرضية، بهدف تمهيد المشهد الأخير لموسيقى احتفالات الصحافة. وعليه فقد كان للقطعة الأصلية معنى برمجيًا معينًا في سياق عرضها، لذا فإن تعريفها الجديد، باعتبارها قصيداً سيمفونياً قائماً بذاته، ليس مناسباً على الإطلاق عندما يتعلق الامر بفكرة عمل برامجي.

خاصةً وأن معظم قصائد الملحن السيمفونية تَفتقر إلى برنامج موسيقي متطور إلى حدٍ ما (ربما باستثناء ليمينكينن – Lemminkäinen). تهدف موسيقى البرنامج السيبيلي عمومًا إلى التقاط المزيد من الأفكار المجردة أو الأجواء أو المشاعر.

لذلك، لا تروي “فنلنديا” أي قصة. ولم يترك الملحن نفسه أي برنامج أو معلومات محددة حول المحتوى. لكن يمكننا الخوض في مراجع العمل لإيجاد معنى عام يوجهنا في التحليل. من الممكن اقتراح مخطط القطعة من خلال النظر الى عمل بيتهوفن: افتتاحية إيغمونت 1809-10م، والذي سمعه في فيينا قبل بضع سنوات، حيث يعرض العمل فكرة مقاربة لمضمون “فنلنديا” الموسيقي: القهر – التحرير.

نقطة انطلاق “فنلنديا” هي نضال فنلندا من أجل الاستقلال وهو السرد نفسه الذي اتبعه بيتهوفن في ايغمونت، كتكوين، تمثل “فنلنديا” نوعًا أساسيًا معينًا من الموسيقى، يَنصب تركيزها على نقل قوس الدراما من الظلام إلى النور. يتميز هذا بالتحرر من قلق البداية إلى يوتوبيا من السعادة والسلام في المنتصف، مما يؤدي إلى نهاية متفائلة ومبهجة. نظرًا لأنه يتطور من الألحان القاتمة للبداية إلى نشيد النهاية السامي، فهو يُحاكي عملَ بيتهوفن التأسيسي لهذا النهج “السيمفونية الخامسة”، على سبيل المثال او بصورة مصغرة افتتاحية ايغمونت التي تتبع نفس المسار الدرامي.

تتكون القصيدة من حركة واحدة مقسمة إلى ثلاثة أقسام:أندانتي – اليغرو – ترنيمة. يُمثل القسم الأول، ذو التأثير الصوتي الكبير، القمع القيصري والإمبراطورية الروسية. يوظف سيبيليوس الآلات النحاسية في هذا القسم لما تكرسه من انطباع حاد يخدم هذه الفكرة، ويهيمن على اللحن في هذا الجزء نغمات داكنة وغير متنافرة. فكرة الافتتاح هنا تتشابه إلى حدٍ بعيد مع فكرة ايغمونت، في كِلا العملين تبدأ الموسيقى بإيقاع داكن يصور القوة الاستعمارية.

يُفتتح القصيد بكورال للآلات النحاسية تَقوده آلات الترومبون على إيقاع الطبلة ليكرسا مزاجاً متوترًا ومشؤومًا. بعد ذلك يتم إنشاء جو ملكي مظلم من خلال الإضافة التدريجية للآلات الوترية وآلات النفخ الخشبية.

يتبع ذلك قسم آخر (اليغرو – Allegro)، أكثر إيقاعية ووقارًا، جوقة حقيقية، أشبه بصلاةٍ تتحول الموسيقى فيها إلى الأمل: أمل في المقاومة، وفي التمرد الذي يَجب أن يُعيد التوازن والاستقلال بعد الضَم، مما يؤدي تدريجياً إلى مزاج جديد مشرق واحتفالي. وسرعان ما تصبح الأغنية أقوى وأكثر جنونًا ولكنها قبل كل شيء مليئة بالعاطفة: فهي تمثل الشعب الفنلندي الذي يستعيد حريته.

في نهاية هذا القسم، تلعب الوتريات مقطعا انتقاليا بحيث تصبح الموسيقى أكثر نعومة وليونة، تَمهيداً للقسم التالي، يُعزف المقطع الانتقالي أولاً بواسطة آلات النفخ الخشبية (فلوت، أوبو، كلارينيت) ومن ثم تدخل الوتريات. بعد ذلك، نستمع إلى ما يُسمى بالنشيد الفنلندي “Finland-hymni”، وهو الجزء الذي أعاد سيبيليوس صياغته أيضاً إلى عملٍ مُستقل، مُحولاً إياه إلى جوقةٍ مَبنية على كلمات للشاعر الفنلندي كوشكنيامي “V. A. Koskenniemi”:

فنلندا، أبصري إذ يشرق الآن فَجْرِك،

ويتوارى عنكِ وعيد الظلام.

ويغرد في النور عصفورٌ أيقظه حُبك،

ليتغنى في سمائك بترنيمة سلام،

ذياك صبحك لم ترهبه العتمة يومًا:

فها هو فَجرك يبزغ يا فنلندا الوطن

فنلندا انهضي يا قرة العين وملء السمع

فرأسك متوّج بحب الوجدان.

فنلندا انهضي فمن أجلك يذرف العالم الدمع

إذ نفضتِ عن روحك شبح الإذعان،

وما ركعتِ يومًا لإمرة القَمع.

فها هو فَجرك يبزغ يا فنلندا الوطن! [هامش⁵]

من خلال هذا التيم يَتم حل التوتر المتراكم عندما يتم لعب اللحن المركزي الهادئ، وهو لحن جميل ومتهادي، كتب سيبيليوس وصفًا شعريًا للمناظر الطبيعية الفنلندية القديمة بجوار هذا القسم في مسودة العمل. يَنتهي قسم الترنيمة بالامتزاج مع كودا تعود فيها مادة المارش الاحتفالي (اليغرو) لتقديم نهاية انتصارية للعمل.

في النهاية، يًمثل القصيد السيبيلي جيدًا كيف أن الموسيقى ليست غريبة أبدًا عن السياق الاجتماعي والثقافي الذي تتكون فيه، وبالتالي يمكن أن تكون حاملة لأكثر الرسائل تباينًا، بما في ذلك الرسائل السياسية. في هذا الصدد، يمكن أن نقول إن عمل سيبيليوس قد خلق أثرا يفوق آلاف الخطب والنشرات من أجل استقلال فنلندا.

في حالة “فنلنديا”، لا يمكن تجاهل أهميتها من منظور وطني أيضًا. يُعد العمل مثالًا جيدًا على إنتاج سيبيليوس، والذي كان له ككل أهمية تاريخية كبيرة في التطور الذي أدى إلى الاستقلال السياسي والثقافي لفنلندا.

خاتمة، “فنلنديا” وسيبيليوس في معرض النقد

“لا تَهتم لما يقوله النُقاد، لم يُنصب من قبل تمثالٌ على شَرف ناقد” – جان سيبيليوس.

ظَلت “فنلنديا” العمل الأكثر شعبية للمؤلف حتى بعد التقدير المتزايد في العقود الثلاثة الماضية لأعماله الأخرى. استمر وجود “فنلنديا” جنبًا إلى جنب مع أعمال أُخرى مثل: الفالس الحزين “Valse triste” وكونشيرتو الكمان والسمفونيتين الأوليتين، متغلبًا على الانتقادات الشديدة من تيودور أدورنو وأولئك الذين اتهموا سيبيليوس بأنه قديم الطراز. أدورنو وغيره من الحداثيين قد وصفوا سيمفونيات سيبيليوس بأنها “قومية”، وشعبية/ محلية بشكل أساسي، وبالتالي ليست ذات أهمية حقيقية حتى يومنا هذا. بالنسبة لادورنو يظل العمل الموسيقي في طور الطفولة ما لم يزل شعبياً.

يرى أدورنو أيضاً أنه في الوقت الذي أصبحت فيه الموسيقى سلعًا استهلاكية، نشأت “هاوية بين الذوق العام والجودة التركيبية”. كانت نتيجة ذلك أن تم الاحتفال بالهُواةّ كمؤلفين عظماء، وكان سيبيليوس هاوياً لا يستطيع كتابة كورال من أربعة أجزاء أو العمل على المبادئ التقنية للموسيقى الكلاسيكية الحقيقية. في الواقع، هناك جانب أخر لحجة أدورنو هذه، وهو الجانب السياسي.

في ألمانيا هتلر كان سيبيليوس يتمتع بمكانة قوية. بين عامي 1933م و 1945م احتلت موسيقاه المركز الرابع من حيث عدد العروض الأوركسترالية (بعد ريتشارد شتراوس، وهانز بفيتزنر، وماكس ريجر)، في حين تم حظر أي موسيقى كتبها يهود (مثل غوستاف مالر وارنولد شوينبيرج) وأي موسيقى غير متوافقة مع الجماليات النازية (مثل انطون فيبرن وبول هينديميث). يُفسر أدورنو شعبيته في الرايخ الثالث، بأن موسيقاه لها سمات معينة مشتركة مع تصوف الطبيعة النازية والعلاقة بها. انتهى الأمر بسيبيليوس عن غير قصد في الشراكة الخطأ، واضطر لدفع ثمنها بعد الحرب عبر التهميش والتغيب.

على الرغم من أن “فنلنديا” ليست النموذج المثالي لنقاش أسلوب المؤلف ومدى أصالته، باعتبارها عملاً بسيطاً من الناحية التركيبية؛ لاسيما إذا ما قورنت بأعمال المؤلف الاساسية (السيمفونيات وكونشيرتو الكمان). فإن الجدال المثار حول سيبيليوس لا يعني بالضرورة أن موسيقاه كذلك بالفعل، يتعلق الأمر هنا بوظيفة الفن من ناحية والمحتوى التقني – البرامجي/المطلق من ناحية أخرى.

من الناحية السيمفونية تم الترحيب بسيبيليوس على أنه بيتهوفن الجديد من قبل الكثير من النقاد والموسيقيين في العالم الأنجلو ساكسوني. يرى كارل داهلهاوس مثلا، مؤرخ الموسيقى الأبرز في ألمانيا الغربية في فترة ما بعد الحرب، بأن السيمفونية الرابعة لسيبيليوس (1911) لها مكانة في التاريخ كعمل حديث لا يحتاج إلى توسل جغرافي خاص لتبريره من الناحية الجمالية في خضم الحداثة الموسيقية. “في هذا العمل، كان سيبيليوس قد” وصل إلى “حالة من المواد الموسيقية” (في استعارة لعبارة من منتقده، أدورنو)، والتي لم يكن ليتجاوزها أبدًا، ولا حتى في السيمفونية السابعة (1924) آخر أعماله السيمفونية.

ختاماً، “فنلنديا” عمل فعال، حيوي ومثير للإعجاب، مليء بالشعور والفخر، مقطوعة جميلة وقيمة للغاية. الشعور الذي يلهمه الفنلنديون أنفسهم مؤثر حقًا. لكن من المؤسف أن شهرته غطت أعمالاً أفضل، أكثر أصالة وتقدمًا، وأكثر تمثيلاً لعبقرية المؤلف، كما اعتقد المؤلف نفسه. بطريقة ما، فقد مَيز العمل الملحن سلبًا على أنه قومي بسيط كرس عملاً مدويًا لبلده، على الرغم من أن هذا ليس صحيحًا تمامًا. من وجهة النظر هذه لا يسعنا إلا أن نكرر أن سيبيليوس كتب عشرات الأعمال الأفضل والأكثر إثارة للاهتمام. هذا لا يقلل من شأن هذا العمل في حد ذاته، لكننا نلفت الانتباه حتى لا يكونوا راضين عن “فنلنديا” فقط ويذهبوا إلى أبعد من ذلك في اكتشاف موسيقى سيبيليوس الاهم والاكثر غنى. استطيع أن اؤكد لك أنك ستكتشف بلا شك واحدًا من أعظم الملحنين في فترة نهاية القرن التاسع عشر و مطلع القرن العشرين.

تسجيل موصى به

* هيربرت فون كارايان، برلين الفيلهارمونية، تسجيل عام 1964م، لطالما عُرف فون كارايان بوصفه مدافعاً عن موسيقى سيبيليوس. في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضي كانت موسيقى سيبيليوس قليلة العزف في أوروبا، وبخاصة بعدما قامت النازية بتوظيف موسيقى الملحن في دعايتها. كان كارايان احد القلائل الذين طالما ادرجوا موسيقى الملحن في برامجهم الموسيقية، وصف سيبيليوس نفسه كارايان بأنه “قائد عظيم” وقال أنه من الجيل الأصغر من قادة الفرق الموسيقية – (كتب هذا في الخمسينيات من القرن الماضي) – فإن فون كارايان الشخص الذي كان لديه أعظم شعور بموسيقاه.

_________________________

الهامش

[1] كانت الحملات الصليبية الشمالية (او الحملات على بحر البلطيق)، عبارة عن حملات استعمار وتنصير مسيحية شنتها السويد ضد الفنلنديين والتافستيين “Tavastians”

 والكارليين “Karelians” خلال الفترة من 1150 إلى 1293م.

[2] تُعتبر رواية ألكسس كيفي “الإخوة السبعة” 1870م أول عمل أدبي مكتوب باللغة الفنلندية، منهياً عصراً هيمن فيه الكتاب الناطقون باللغة السويدية. قام إلياس لونروت بدوره بإنشاء ملحمة “كاليفالا” الوطنية بناءً على الفولكلور الفنلندي والكاريلي. نُشرت النسخة الأولى من القصيدة الملحمية عام 1835م والثانية عام 1849م.

بدأت الحياة الأدبية للكاتب الفنلندي “فرانس إيميل سيلانبا” الحائز على جائزة نوبل في الأدب خلال الحرب العالمية الأولى. صور “سيلانبا” في رواياته الحياة الريفية الفنلندية بناءً على المعرفة النفسية للعصر.

بصرف النظر عن الثقافة الفنلندية، كانت هناك أيضًا الثقافة السويدية، التي أقرتها بشكلٍ خاص النخبة في البلاد. وتحت تأثير هذه الموجة الثقافية القومية قامت معظم النخبة الناطقة بالسويدية بتغيير لغتها طواعية إلى الفنلندية، ودافع البعض بقوة عن لغتهم الأم، معتبرينها لغة للتعليم العالي، على عكس الفنلندية الزراعية.

عندما حصلت فنلندا على استقلالها عام 1917م، كان لديها ثقافة أدبية نابضة بالحياة باللغتين الفنلندية والسويدية. كما تم نشر الترجمات بوفرة.

[3] كاليفالا (Kalevala) ملحمة وطنية شعرية تم تجميعها من القصص الفنلندية القديمة والموروث الغنائي والتقاليد الشفوية من قبل العالم اللغوي الفنلندي إلياس لونروت في منتصف القرن التاسع عشر. تعتبر ملحمة وطنية فنلندية وإحدى أهم أعمال الأدب الفنلندي، كان سيببليوس على اتصال دائم بالادب الفنلندي وعلى وجه الخصوص الكاليفالا، ملحمة فنلندا الأسطورية، والتي ظلت بالنسبة له مصدر إلهام دائم، وكانت اساسا للعديد من اعماله الموسيقية.

[4] فینامونين (Väinämöinen):- الشخصية المركزية في الفولكلور الفنلندي والشخصية الرئيسية في الملحمة الوطنية كاليفالا. وهو نصف إله ونصف إنسان.

يقدم الموروث الادبي وصفاً لفينامونين بأنه رجل عجوز وحكيم، ويمتلك صوتًا قويًا وسحريًا في الغناء.

[5] (هذه الترجمة العربية منقولة عن الترجمة الإنجليزية التي وضعها “كيت بوشلي” عن النص الأصلي للشاعر “كوشكنيامي”. وتم إدراجها ضمن مختارات بوشلي الرائعة “التزلج على صفحة البحر – شعر من فنلندا” التي نشرتها Bloodaxe Books – (رقم دولي معياري للكتاب: 1 85224 388 0) كما تم نشرها في فنلندا بالتعاون مع جمعية الأدب الفنلندية).

© Keith Bosley and Bloodaxe Books

موقع ThisisFINLAND (هذه هي فنلندا).

المراجع:

 

  • Aira Kemiläinen., Race Theories and National Identity in Finland
  • The Sibelius Problem by by “Ilkka Oramo”, Sibelius Academy. 10/01/2007
  • Carl Dahlhaus, Nineteenth-Century Music. English translation by J. Bradford Robinson, Berkeley, and Los Angeles: University of California Press, 1989, p. 368
  • Aira Kemiläinen, Finns in the Shadow of the Aryans: Race Theories and Racism.
  • Sibelius, Finland, and the Idea of Landscape. Daniel M. Grimley
  • Jean Sibelius and His World (The Bard Music Festival, 25). Daniel M. Grimley.
  • Finlandia by Jean Sibelius – this is FINLAND.