منوعات

أساليب “الحداثيين” في الطعن في “السنة النبوية” (1)

أساليب “الحَدَاثِيِّين” في الطَّعْنِ في “السُّنة النبوية” (1)

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:

أنتجت القريحة العربية الإسلامية في ظلِّ نصوص الحديث الشريف صرحاً شامخاً، وطوداً راسخاً، تمثَّل فيما أطلق عليه العلماء اسم “علوم الحديث” التي شملت علوماً شتَّى؛ علم الإسناد، والرجال، ومصطلح الحديث، وغيرها من العلوم المرتبطة بالسنة النبوية، وقد بذلوا في سبيل ذلك النفس والنفيس، على مدار عقودٍ من الزمن، تمكَّنوا خلالها من تمييز السقيم من الصحيح؛ فحفظوا السُّنة وصانوها من عبث العابثين.

 

ورغم ذلك؛ لم تمنع هذه العلوم بعض المشاغبين في كلِّ عصرٍ من التطاول على السُّنة وأهلها، بدايةً بأهل الأهواء والزيغ من أصحاب الفِرق والمذاهب الضالة التي نشأت في مرحلة مُبكِّرة من عمر الإسلام الحنيف.

 

ويمثل العقلانيون العرب اتجاهاً مستقلاً بذاته عن الحداثيين؛ إذ إنهم وبالرغم من تلاقيهم في كثير من الأفكار والآراء إلاَّ أنهم يختلفون في المنطلقات والغايات.

 

فالعقلانيون العرب، تأثروا – بداية – بمذهب المعتزلة، حيث اطَّلعوا عليه وخبروه خبرة تامة، وقد انبهروا بآرائهم فيما يتعلَّق بإعلاء شأن العقل وتقديمه على النقل، بل جعلوه حاكماً على النص، فكان التأويل وكان الهجوم على الإسناد وعلوم الحديث، وكان رد خبر الآحاد وعدم الأخذ به، وغير ذلك ممَّا ذهبوا إليه، فتأثَّر العقلانيون العرب بآرائهم وقاموا بإحياء تراثهم المندثر ونشره والترويج له.

 

كما تأثر العقلانيون العرب بالصدمة الفكرية التي وقعت للشرق عامة ولهم خاصة، بعد مجيء الاستعمار وطَرْقِه أبواب الشرق والاتصال بالغرب والترحال إليه، والاطلاع على ما وصل إليه من تقدُّم وازدهار، بينما هم في تخلُّفٍ وانهيار؛ فأرادوا أن يلحقوا بركب التقدُّم والتحضُّر، ظانين أن السبيل هو متابعتهم فيما عندهم وإعمالهم العقل، والعقل فقط، فكان تعاطيهم للتراث وموقفهم من الحديث وأهله.

 

ولكنهم ورغم ما تبنَّوه من أفكار وما روَّجوا له من آراء، إلاَّ أنهم كانوا يدَّعون رغبتهم في الإصلاح، وأنهم إنما يخدمون الإسلام والسنة النبوية المشرفة، فهدفهم المعلن كان نبيلاً.

 

ويمكن القول إنَّ العقلانيين العرب كانوا أوَّلَ بذرة للحداثة العربية؛ لأنَّ أصحاب التيار الحداثي دائماً يتحدَّثون عنهم وعن آرائهم، وكثير من الأحيان يعتبرون أنفسهم امتداداً لهم، لا سيما أصحاب التيار الحداثي المصري.

 

ولكن في الوقت ذاته لا يمكن بحال اعتبار الحداثيين العرب جزءًا من العقلانيين رغم تشابههم في كثير من الآراء والأفكار، فالتيار الحداثي العربي يُمثِّل تياراً مُستقِلاًّ، بأدوات وأفكار وآراء وأصول وجذور خاصة، مستمدة معظمها من الفلسفة الغربية والحداثة الغربية، وكذلك فإن موقفهم من التراث العربي موقف عدائي؛ حيث يريدون نقضه وهدمه، ثم البناء من جديد، بعيداً عن هذا التراث الذي يصدُّهم عن سبيل التقدُّم والرُّقي بزعمهم.

 

كما يُلاحَظ على التيار الحداثي العربي غزارة إنتاجه الفكري وامتداده على مدار العالم العربي من شرقه إلى غربه، في حركة نشطة ومتصاعدة، حتى يمكن القول إنَّهم كوَّنوا فيما بينهم مدرسةً فكريَّةً وتيَّاراً فلسفيًّا.

 

ولذا نالت السنة النبوية القسط الأوفر من الهجوم والحرب المعلنة، وتعدَّدت أوجه الهجوم وأساليب الطعن فيها، ومن أهم أساليب “الحداثيين” في الطعن في “السنة النبوية” ما يلي:

الأسلوب الأول: نفي صفة الوحي عن السُّنة:

وقف دعاة الحداثة من السنة النبوية وكونها وحياً من عند الله تعالى مواقف متعدِّدة؛ لكنها جميعاً تُعَبِّر عن موقف رافضٍ لاعتبارها وحياً من عند الله تعالى؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى الدعوة إلى التعامل معها تعاملاً لغوياً وتلقِّيها تَلَقِّياً بشرياً وَفْق مفاهيم ومعايير النقد الحديث[1]:

1- فمنهم مَنْ يتبنَّى القولَ ببشرية النصوص الدِّينية: (النصوص الدِّينية نصوص لغوية، شأنها شأن أيَّة نصوصٍ أُخرى في الثقافة، وأنَّ أصلها الإلهي لا يعني أنها في درسها وتحليلها تحتاج إلى منهجيات ذات طبيعة خاصة تتناسب مع طبيعتها الإلهية.. هنا نتبنَّى القول ببشرية النصوص الدِّينية)[2]، وهم في دعواهم هذه لا يُفرِّقون بين القرآن والسُّنة؛ وإنما جمعوا بينهما باعتبارهما نصوصاً لغوية، ويجب إخضاعهما – في الدرس والتحليل والتأويل – لأدوات ومناهج اللغة؛ سواء أُنتِجت هذه الأدوات قديماً أو وُضِعَت حديثاً، ولعل من أخطر ما يُروِّجون له ويحاولون تطبيقه من مناهج النقد الحديث هي نظرية التَّلقِّي، وما تفرَّع عنها من مفاهيم ومصطلحات؛ كالإبداع الموازي، وموت المؤلف، وغيرها، التي لا يسوغ بحال من الأحوال استعمالها وتطبيقها على النصوص المقدَّسة، فلا يجوز أن نفصل النَّص المُقدَّس عن قائله؛ وهو الله سبحانه وتعالى، وعن مُبلِّغه؛ وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أعلم خلق الله بمراد الله تعالى.

 

2- ومنهم مَنْ يُصرِّح بأنَّ الحديث النبوي ليس وحياً مُنزَّلاً، ثم يستدل على ذلك بأن السُّنة لا تُقرأ في الصلاة ممَّا يدلُّ على بشريَّتها، وانتفاء صفة الوحي عنها: (الحديث النبوي ليس وحياً مُنزَّلاً، ولو كان كذلك لأصبح مَتْنُه قُرآناً يقرأه المسلمُ عند أدائه فروضَ صلاته)[3]، وهذا دليل على قصور فهمهم؛ إذ إنهم لم يستوعبوا أنَّ نصوص السنة النبوية وحي من عند الله تعالى بمعناها، وإنما الذي صاغها وعبَّر عنها بلغته وبلاغته هو الرسول صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك: الأحاديث المُفسِّرة للعبادات، التي أجملها القرآن الكريم وفسَّرتها السنة النبوية، فالعقل يقتضي أنَّ تفاصيل العبادات والفروض ليست اجتهاداً من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وإنما أوامر توقيفية من الله تعالى، فمن أين أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم لو لم تكن السنة وحياً من عند الله تعالى.

 

3- ومنهم مَنْ يُثبت القداسة للقرآن والأحاديث القدسية، وما عدا ذلك فهو إنتاج بَشَري غير مُلزم: (ليس هناك ما هو مقدَّس إلاَّ كلمات الله المُباشرة من كتابه الحكيم، وما بلَّغه عنه رسولُه الكريم، أمَّا عدا ذلك فإنتاج بشري نستفيد منه ونستشيره ولكنه غير ملزم)[4]، وهذا الموقف ممَّا يُلَبِّس على الناس؛ إذ إنهم يُثبِتون القداسة للقرآن الكريم وللأحاديث القدسية، وربما يظن ظان أنهم أكثر اعتدالاً من غيرهم، وهذا خطأٌ جسيم؛ إذ إنهم أثبتوا القداسةَ لجزءٍ من الوحي، ثم نزعوا القداسة عن باقي الوحي، وفي نزعهم لهذه القداسة هَدْمٌ لما ادَّعوا تقديسَه ابتداءً؛ إذ لا يُفهم ولا يُفسَّر ولا يُعرف مُرادُه إلاَّ من خلال ما يُحاولون نزع القداسة عنه، فكيف لهم أنْ يفهموه؟! إنهم يهدفون إلى تأويل القرآن وتفسيره وإخضاعه وَفْقاً لأهوائهم وتحقيقاً لمآربهم، والسَّدُّ المنيع الذي يحول بينهم وبين ذلك هي السنة النبوية، فلا بد إذاً – حسب مفهومهم – من التخلص منها وتنحيتها جانباً.

 

4- ومنهم مَنْ يقول بثبوت منطوق النَّص، وتحرُّك مفهومه: (النص الديني في القراءة الحداثية ثابت من حيث منطوقه متحرِّك من حيث مفهومه، فلا مدلول له إلاَّ ما يضعه البشر من مدلولات وَفقاً لأفهامهم الخاصة، فهو قابل للتغيير قبولاً ورفضاً، والمصدر الإلهي للنصوص الدينية لا يُخرجها عن هذه القوانين؛ لأنها “تأنسنت” منذ تجسَّدت في التاريخ واللغة وتوجَّهت بمدلولها إلى البشر في واقع تاريخي محدَّد)[5]، وهذا الاتجاه القائل بتاريخية النصوص الدينية لا يهدف إلاَّ إلى تعطيل هذه النصوص، فهو يُثبِت قدسيَّتها، ويُثبت ما فهمه منها السابقون، ولكنه في الوقت ذاته يدعو إلى القول بأنهم فهموها وَفق معطيات عصورهم ووَفق مقتضيات واقعهم هم، فهي مناسبة للظرف التاريخي الذي عاشوه وعايشوه، ولكننا لسنا ملزمين أنْ نعيش وَفق أزمانهم وحسب عصورهم، لا سيما مع التطور الواضح في الحياة وآلياتها. ولنا وقفات مع هذا الاتجاه:

أولاً: هذا الاتجاه قَرَنَ بين الاجتهاد وبين الأحكام، فما لا شكَّ فيه أن الاجتهاد مستمر إلى قيام الساعة؛ وذلك ليستوعب ما يستجد من قضايا ومن إشكالات، ليقدم لها الحلول الشرعية المنضبطة بضوابط الشرع.

 

ثانياً: القول بتاريخية النصوص دعوة خطيرة تُمثِّل اتِّهاماً خطيراً للإسلام، فتنفي عنه صفة العالمية؛ إذ كيف يصبح عالميًّا وقد نزل لظروف بعينها لا تنطبق على ما سواه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تنفي عنه صفة آخِر الرسالات، إذ أنه بهذا الشكل يفتقر إلى الكمال، ففيه قصور؛ لعدم استيعابه ما تبقَّى من عمر الإنسان على الأرض.

 

5-ومنهم مَنْ يرفض تفسيرَ أهلِ السُّنة للآيات الدالة على أنَّ السُّنة وحي؛ كقوله تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم:3، 4] ويؤوِّلها ويقرؤها قراءةً حداثية: ويزعم أنه (لا علاقة للسُّنة بالحكمة أو الوحي، وأنَّ فَهم الآيات على هذا الشكل فَهمٌ ظاهر يُشبه ما ذهب إليه أهل الظاهر من فَهم الآية: ﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ [الفتح: 10] فوقعوا في التشخيص تعالى الله عمَّا يقولون)[6]، والسؤال المُوجَّه له ولمن على شاكلته: إذا لم تكن هناك علاقة للسنة النبوية بالحكمة أو الوحي، فما المقصود إذاً من الآية؟! وإذا لم نُفسِّر الآية بالآيات من القرآن، فما المقصود إذاً بالحكمة؟! ومَنْ هو صاحبُها؟! وأين هي؟!

 

6- ومنهم مَنْ ينفي صفة الوحي عن السُّنة بدليل عدم كتابة النبي صلى الله عليه وسلم لها، ونهيه عن ذلك، ويرفض قوله صلى الله عليه وسلم: (أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ[7])[8]: بدعوى أنه (من أغرب ما قذفته الرواية في سَيْلِها؛ لأنَّ النبي إذا كان قد أوتي مِثلَ الكتاب، أو مِثلَ القرآن، فمعنى ذلك أنه قد أوتي بذلك ليكون تماماً على القرآن وإكمالاً له لبيان دينه وشريعته، وإذا كان الأمر كذلك فَلِمَ لَمْ يُعنَ النبي بكتابة هذا المِثْل في حياته عندما تلقَّاه عن ربه كما عُنِيَ بكتابة القرآن؟ ولِمَ لَمْ يجعل له كُتَّاباً يُقيِّدونه عند نزوله كما جعل للقرآن كُتَّاباً؟)[9].

 

والرد على هذه السؤالات كما يلي:

أولاً: من الثابت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان له كتبةٌ للوحي، يكتبون ما ينزل عليه من ربه من آيات القرآن الكريم، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن كتابة شيء غير القرآن الكريم، كما ثبت عنه الأمر بكتابة ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم؛ كما في حديث عبد اللَّهِ بن عَمْرٍو رضي الله عنهما، قال: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ، وَقَالُوا: أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ في الْغَضَبِ وَالرِّضَا؟! فَأَمْسَكْتُ عَن الْكِتَابِ! فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إلى فِيهِ، فقال: (اكْتُبْ فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلاَّ حَقٌّ)[10]. فلماذا اجتُزِئَتْ الروايات، وأخذتم ما يناسبكم وتركتم ما يُخالفكم؟! فهذا الانتقاء يُخالف الموضوعية العلمية التي تدَّعون التزامها.

 

ثانياً: القرآن الكريم كلام الله تعالى، لا يجوز أن يُستبدل فيه حرف مكان حرف أو أن تُقدَّم آية على أُخرى، أو أن يتغيَّر موضع سورة من سورة بالتقديم أو التأخير، فهو توقيفي في الحروف والكلمات والآيات والسور بنفس الترتيب، ولا تجوز روايته بالمعنى وإنما بنصِّه ولفظه؛ لذا كان الشُّغل الشاغل هو تدوين القرآن الكريم كما هو وكما أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظاً له وصيانة له.

 

أمَّا السنة فتختلف عن القرآن الكريم، فهي وإن كانت وحياً من عند الله تعالى، إلاَّ أنها ليست وحياً باللفظ التوقيفي، وإنما بالمعنى، وأمَّا الصياغة، فمن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجوز روايتها بالمعنى.

 

وليس هناك من أهل الإسلام قديماً وحديثاً مَنْ ساوى بين القرآن والسنة إلى حدِّ التَّطابق، فالسنة هي المصدر الثاني للتشريع، وهي في المنزلة التالية للقرآن الكريم، وقد استمدَّت قدسيَّتها وأهميَّتها من القرآن الكريم، باعتبارها الشارحة له والمفسِّرة لأحكامه، وأمَّا عن حفظها وتدوينها وصيانتها؛ فالأحاديث التي تحثُّ على حفظها وتبليغها أكثر من أن تُحصى، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (نَضَّرَ الله امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حتى يُبَلِّغَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هو أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيسَ بِفَقِيهٍ)[11]. أليس في هذا التوجيه النبوي بحفظها وتبليغها ما يوحي بعنايته صلى الله عليه وسلم بها وبحفظها؟

 

7- ومنهم مَن يدَّعي بأنَّ السنة تجربة بشرية محضة خاضها النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ فزعم بعضهم أنَّ السُّنة إلهام بشري، وحديث نفسٍ، ولا ترتقي أنْ تكون وحياً ربَّانيًّا: بل (كلُّ ما اختزنه محمد في ذاكرته سيرجع عن طريق الوحي في حالة الإيحاء الداخلي، عن طريق الصوت الداخلي الملهم في فترات الانحطاط والذي اعتبَرَه محمد بكلٍّ حماسٍ وحياً إلهياً من الخارج)[12].

 

ولم يقف أصحاب هذا القول عند حدود السنة النبوية والقول ببشريَّتها، وإنما تجاوزوها إلى القرآن الكريم، ونفي صفة الوحي عنه، واعتباره تأليفاً من عند النبي صلى الله عليه وسلم.

 

وزعم بعضُهم: أنَّ القرآن من صُنع النبي صلى الله عليه وسلم؛ بسبب تجربته البشرية، ومخالطته ومعاشرته لبني قومه، واستفادته من الأقوام السابقين والأديان السابقة، وسفره المُتعاقب في رحلات التجارة إلى الشام، وإقامته بالشام مُتَتَلْمِذاً على يدي رهبانها وأحبارها[13].

 

وزعم بعضُهم: انتفاء الوحي عن السُّنة؛ بتعظيم صفات النبي صلى الله عليه وسلم البشرية القيادية: و(للتأكيد على بشرية السُّنة يذهب بعض الحداثيين إلى تعظيم صفات النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الشَّخصية الفذَّة والقائد العظيم، والمُفكِّر المبدع، والعبقري الفيلسوف، والعالِم واسع الاطلاع، والمُشرِّع المُتَمرِّس، والأديب الذي لا يُضاهى، فهو الأعلى منزلةً بين البشر والأعلى قامةً، والأكثر معرفةً بأديان وشعائر الأقوام الآخرين والأمم السابقة وعباداتها… إلخ[14]، هذه الأوصاف وغيرها الكثير التي تندرج تحتها عبارات المستشرقين التَّبجيلية لشخص محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأنه أعظم البشر وأعظم قائدٍ عبر التاريخ… وغيرها من الصفات البشرية مُتَجنِّبين ذِكر صفة الوحي أو النبوة عنه صلى الله عليه وسلم… فهذا المدح في حقِّه صلى الله عليه وسلم وإنْ كان غيرَ مرفوضٍ من حيث المبدأ؛ لكنه مردود مرفوض من حيث المآل والمَغْزَى الرَّامي لإبعاد صفة الوحي عنه)[15]، وممَّا لا شك فيه أن الحداثيين العرب لم يختلقوا هذه الأقوال ولم يبتدعوها، وإنما أعادوا إحياءها من جديد، فحتى في عصر النبي صلى الله عليه وسلم يُسجِّل لنا القرآن الكريم أقوال مَنْ عادوه ورفضوا اتِّباعه، فقال سبحانه وتعالى عنهم: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الفرقان: 4 – 5]؛ وقوله سبحانه: ﴿ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلْ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ﴾ [الأنبياء: 5].

 

فمثل هذه الأقوال ممَّا لا ينظر فيها، ولا يلتفت لها؛ لأنها مسألة إيمانية بحتة، فمهما ادَّعى الحداثيون اتصالهم بالدين ومهما ادَّعوا إسلامهم، فلا يمكن أن يُسلَّم لهم بذلك ما داموا يُشكِّكون في ثبوت القرآن الكريم وكونه كلام الله الموحَى به إلى نبيِّه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.

 

ولكن ما يجب النظر إليه والرد عليه هو خلع صفات العظمة والعبقرية على نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الأمر مردود عليه من قديم، فقد فطن له العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه في فتح مكة، عندما صعد هو وأبو سفيان الجبل؛ فرأى أبو سفيان جيشَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال: سبحان الله، يا عباس! مَنْ هؤلاء؟ قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقَةٌ، واللهِ، يا أبا الفضل! لقد أصبح مُلْكُ ابنِ أخيك الغداةَ عظيماً، قال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: يا أبا سفيان! إنها النبوة، قال: فنعم إذن[16].

 

ونرد عليهم جميعاً: إنَّ كل عظمة حقَّقها النبي صلى الله عليه وسلم وكلَّ منزلة وكلَّ فضل وكلَّ نبوغ مردُّه إلى النبوة والرسالة، فما كان لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم أنْ يصل إلى ما وصل إليه إلاَّ بالنبوة الرسالة، وقد عاش صلى الله عليه وسلم أربعين سنة قبل الرسالة لم يكن يقرأ ولا يكتب ولم يكن قائداً ولا رئيساً إلاَّ ما اشتهر عنه من صفات خُلُقية حميدة، وهي بمثابة الإعداد الإلهي المُسبق للرسالة. فما ظهرت دلائل نبوغه وعبقريته إلاَّ مع الوحي ومع الرسالة، فمَنْ قال بعبقريته وعظمته وقيادته، فلا بد أن يقرنها بإقرارٍ آخر، وهو الإقرار برسالته ونبوته صلى الله عليه وسلم.

 

8- ومنهم مَنْ يطعن في شخص النبي صلى الله عليه وسلم بسبب اليتم؛ لنفي التقديس عن السُّنة: فيزعم أنَّ (قصة امتناع المراضع عن أخذ محمدٍ بسبب يتمه قصة أشهر من أنْ تُنكر، ولم تأخذه حليمة إلاَّ لأنها لم تجد سواه. اليتيم في مثل هذا المجتمع القائم على العصبية كان يُعاني دون شكٍ إحساساً طاغياً بالإهمال والضياع)[17]. والمحصِّلة النهائية لهذا الافتراء تُوصل إلى أنَّ إهمال المجتمع للنبي صلى الله عليه وسلم في طفولته – بسبب يُتمه؛ جعله شخصاً ناقماً على المجتمع والناس، فتنتفي القداسة عن السُّنة النبوية؛ لذا كان بعضهم يُشكِّك في السنة النبوية ويزعم أنها (ادِّعاءات نبوية)[18].

 

وبعضُهم: يطعن في النبيِّ صلى الله عليه وسلم بسبب أُميَّته، فيقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميًّا ورسولاً للأميين، فما كان يخرج في شيء من حياته الخاصة والعامة ولا في شريعته عن أصول الأمية ولا عن مقتضيات السذاجة… فلعل ذلك الذي رأينا في نظام الحكم أيام النبي صلى الله عليه وسلم هو النظام الذي تقضي به البساطة الفطرية)[19].

 

والسؤال الموجَّه لهؤلاء الطاعنين في شخص النبي صلى الله عليه وسلم واتهامهم له بالحقد على المجتمع والنِّقمة عليه، أين هذا الحقد وتلك النِّقمة عندما دخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكةَ فاتحاً منتصِراً؟! ألم يكن من حقه – لو كان تحليلهم لشخصيَّته صحيحاً – أن ينتقم منهم جراء ما فعلوه؟!

 

ولكن العكس ما حدث، فقال لهم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، أقول لمَنْ يحتجُّ بقصة امتناع المراضِع عن أخذه صلى الله عليه وسلم وشهرتها: هذه القصة أيضاً أشهر من أن تُنكَر، وغيرها الكثير من قصص حلمه وعفوه وصفحه، والتي تدل على سمو أخلاقه، ورقي أدبه، وسلامة صدره، وبُعدِه كلَّ البُعد عن كلِّ مظاهر الحقد أو الانتقام.

 

أمَّا مَن ادَّعى سذاجة النبي صلى الله عليه وسلم وأُميَّته، فأقول له: لن أناقشك في نظام الحكم الإسلامي الفريد، ولا في تجربة النبي صلى الله عليه وسلم الرائعة، ولكن أقول لك: أليس من العدل والموضوعية عند تقييم نظامٍ مَّا؛ أنْ يكون التقييم وَفْقَ ظروف عصره، فالتجارب إنما تُقيَّم في وسطها التاريخي والمكاني، ولا يجوز أنْ نُقيِّم تجربةً في القرن الأوَّل مثلاً بتجربةٍ في القرن العشرين، مُتَّهمين الأُولى بالتخلُّف والبساطة والسَّذاجة، فهذا ما لا يقبله العقل الصحيح، ولا البحث العلمي المُنصِف المحايد، ولكنه الهوى الذي يتحكَّم في أصحابه فيَخرُج بهم عن الصواب إلى الخطأ لا محالة.

 

يُتبع.


[1] انظر: الحداثة وموقفها من السنة، الحارث فخري عيسى عبد الله (ص 119).

[2] نقد الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد (ص 208).

[3] جناية البخاري: إنقاذ الدين من إمام المحدثين، زكريا أوزون (ص 14).

[4] السياسة بين الحلال والحرام: أنتم أعلم بأمور دنياكم، تركي الحمد (ص 78).

[5] القراءة الحداثية للسنة النبوية “عرض ونقد”، د. محمد عبد الفتاح الخطيب، (ص 16).

[6] دراسات إسلامية معاصرة في الدولة والمجتمع، الدكتور المهندس محمد شحرور (ص 233).

[7] (وَمِثْلَهُ مَعَهُ): أراد بذلك السُّنة التي أُوتي. انظر: (صحيح البخاري، لابن بطال (10/ 358).

[8] رواه أحمد في (المسند)، (4/ 130)، (ح 17213)؛ وأبو داود، (4/ 200)، (ح 4604). وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (3/ 117)، (ح 4604).

[9] أضواء على السنة المحمدية، (ص 51).

[10] رواه أحمد في (المسند)، (2/ 162)، (ح 6510)؛ وأبو داود، (3/ 318)، (ح 3646). وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (2/ 408)، (ح 3646).

[11] رواه أبو داود، (3/ 322)، (ح 3660)، والترمذي، (5/ 33)، (ح 2356) وحسنه. وصححه الألباني في (صحيح سنن أبي داود)، (2/ 411)، (ح 3660).

[12] تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، (ص 155).

[13] انظر: العلمنة والدين، محمد أركون (ص 46)؛ تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، هشام جعيط (ص 150)؛ النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، (ص 103).

[14] انظر: القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، (ص 84)؛ نزعة الأنسنة في الفكر العربي: جيل مسكويه والتوحيدي، محمد أركون، ترجمة: هشام صالح (ص 541)؛ السيرة النبوية الوحي والقرآن والنبوة، هشام جعيط (ص 46)؛ السنة والإصلاح، عبد الله العروي (ص 114)؛ الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، محمد حمزة (ص 296).

[15] الحداثة وموقفها من السنة، (ص 126).

[16] انظر: سيرة ابن هشام، (2/ 404)؛ دلائل النبوة، للبيهقي (5/ 69).

[17] مفهوم النص دراسة في علوم القرآن، نصر حامد أبو زيد (ص 67).

[18] الأختام الأصولية والشعائر التقدمية مصائر المشروع الثقافي العربي، علي حرب (ص 106).

[19] الإسلام وأصول الحكم بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام، علي عبد الرزاق (ص 62).