منوعات

سكن الروح.. وعين الرضا – مكساوي –

سكنُ الرّوحِ.. وعينُ الرضا

 

رباط الحبِّ بين الزوجين رباط مقدسٌ، تُدثِّره الرحمة، وتظلله غصون المودة، فلِمَ يختلف الزوجانِ على شيء تافه، ويتطور العداء، حتى يتخلخل هذا البناء الشامخ العتيد؟

 

يا لأمر خديجة والحبيب صلى الله عليه وسلم، يعود إلى حضنها بعد ساعات رهيبة قضاها في الغار، كادت أن تختلف منها أضلاعه.

 

كأني به تصطكُّ أسنانه من شدة البرد، ويرتجف وقد عَلَتْهُ رهبة الموقف وشدته، وهو يقول لخديجة التي مُلئت حنانًا من رأسها إلى أخمص قدميها: دثروني… دثروني…

 

كانت هذه الكلمة لا سواها هي التي تدوي في البيت، وتمتلئ أركان البيت بصداها.

دثروني فأنا متعب…

مرهق…

مبرود…

لا أطيق الوقوف على قدمي…

لا تحملني رجلاي…

فتُهرع خديجة تدثره…

وقبل دثار اللباس دثرت قلبه بشَغاف قلبها…

 

كان بإمكانه أن يأخذ غطاءه وينزوي على نفسه، ويلتف في لحافه، وتجيش أنفاسه دون علم خديجة، لكن كان يريد مشاعرها قبل دثارها، وقلبها قبل غطائها.

 

يا خديجة: “والله لقد خشيت على نفسي”.

فترد: “كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا”.

ثم تصفه بصفات هي من أعظم ما وُصف به الحبيب صلى الله عليه وسلم.

أي ثقة كانت عند خديجة؟!

أي قلب تحمل؟!

أي أمل تصنع؟!

ما أنقى قلبها الذي كان يجيش بتلك العواطف!

لقد كانت أمًّا قبل أن تكون زوجة، فما قلبها إلا قلب عطوف رؤوم، تحن على صغيرها الذي ينتفض من البرد؛ كعصفور على غصن شجرة.

 

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبادلها نفس الشعور؛ فقد كان محبًّا لها، يعرف قدرها، ويعلي من مكانتها، ويعرف حقها، وعندما ودَّعَتِ الدنيا، أظلمت الدنيا في وجهه، وكان ذلك العام عام الحزن.

 

الروح إذا سكنت إلى إلْفِها، واطمأنت في عُشِّها، صار البيت حديقة وارفة، ومرتعًا آمنًا، ونزلت البركة، وتغَشت الرحمة، وهطل الرزق، وعمَّ الخير.

 

ذكر الإمام أحمد بن حنبلٍ رضي الله عنه أنه أقام مع زوجته أمِّ صالح ثلاثين عامًا، فما اختلف معها في كلمة!

 

وذكر الرافعي رحمه الله بقاءه أكثر من خمسة وعشرين عامًا مع زوجته لم يختلفا إلا مرةً واحدة، كان هو المخطئ فيها!

 

كيف يمكن أن نجعل البيت كله سكينة وحبًّا وجمالًا؟

 

بالتفاهم وعدم رفع الصوت، وأن يعتبر كل منهما الآخر شريكًا له في هذه الحياة، فيظلله بالحب والرحمة والود.

 

إن نفوس الكثير من الأزواج والزوجات أصبحت متصحرة من الحب، قاحلة من الود، ضربها جفاف العاطفة، فتشققت عن خصام وبغضاء، وهجر واختلاف، ففارقها الإلْفُ، فعاد انعكاس ذلك عليهم هم وأولادهم، وأصبحت تلك الأسر في شقاء.

 

الحب بين الزوجين رابط قوي، وحبل متين، وعروة وثيقة، ولقد وقفتُ على كلمات عجيبة في مذكرات الشيخ محمد الغزالي، وهو يتذكر رفيقة دربه، فيقول عنها كلامًا لطيفًا يبعث الشجى، ويثير كوامن الذكرى؛ إذ يقول: “لقد عشتُ مع زوجَتي ثلاثين سنةً كأسعدِ زوجَين في الدنيا، وكافَأتها على رِضاها بفَقري، فأسكنتُها الغرفَ، وأذقتُها الترَف، وجعلتُها تدوسُ الحريرَ والذهب، وأنجبتُ منها تسعًا من الوَلد، استودعتُ ربي اثنين، وبقيَ لي سبعٌ من الإناثِ والذكور، ثم فارقَتْ الدنيا على غيرِ انتظار، فبكيتُها من أعماقي، وتمثَّلت بما قيل:

 

وقفتُ على قضايا زوجية تافهة لا تُذكر، ولا تستحق الذكر، تطورت حتى انتهى الأمر بالانفصال، ما الذي يجعل الهوة تكبر، والخرق يتسع؟

إنه غض الطرف عن كل محاسن الرفيق، والنظر بعمق إلى عيوبه.

فإذا نظرتَ بعينِ الرضا، هانت تلك المساوئ وصغُرت وتلاشت واختفت؛ وقديمًا يقول الإمام الشافعي:

وكما أن هذه العين موصوفة بأنها كليلة، فقد وُصِفت أيضًا بأنها عمياء؛ إذ يقول الشاعر:

وكما سُمِّيت هذه العين التي تغض الطرف عن هفوات الرفيق بعين الرضا، فقد سميت أيضًا باسم أعمق من هذا، فقد سميت بعين الحب؛ كما قال الشاعر:

وحتى لا يحصل شرخ في بناء العلاقة الزوجية، يجب على الشريك أثناء حصول أي خلاف في وجهة نظر، أو التقصير في القيام بمهمة موكَلة من أحد الطرفين – الهدوءُ قليلًا، والتروي، وضبط النفس، وتذكر المحاسن، والإعراض صفحًا عن تضخيم العيوب، وقَلَّ – بل عدم – أن تجد شخصًا مبرَّأً من النقص والعيب والزلل، بل المتنبي له مذهب موغلٌ في هذه القضية، فهو يرى أن عيوب الصديق حسنات؛ فيقول موضحًا مذهبه بكل جرأة:

ويقابل عين الرضا عين السخط؛ إذ يقول أبو العتاهية مميزًا بينهما:

الحياة الزوجية تقوم على التكامل، وإلا تتآكل، وسفينة العلاقات لا بد أن ترمَّم بين الحين والآخر، وإلا ستغرقها أمواج الخلافات، وعش الزوجية عش جميل ماتع؛ فلقد سمى الله عز وجل كلًّا من الزوجين لباسًا للآخر، واللباس من طبيعته الستر؛ فهو يستر الجسد ويغطيه؛ ستر من العيوب، ستر من الهفوات، تحصين من الزلَّات، صرفٌ لهذه الشهوة المستعِرة، وتوجيهٌ لها في الحلال؛ لتطيب الحياة، ويكمل النقص، وما أقبح أن يرى الزوج زوجتَه أنها مجرد متعة فحسب، ضاربًا بإنسانيتها عرض الحائط.

 

الحياة الزوجية أكبر من هذا.

 

إنها مسألة العيش المشترك، والأمان، والاطمئنان، والزاوية التي تجد فيها مواقد الدفء، وأفانين السعادة، وجِنان الحب، وبسمات الود.

 

والزوجة سكن، وما أجمله من سكن! فيه الراحة والهناء وطيب العيش وجمال المستقر، فإن وجِد في هذا السكن ما ينغص، فمن الكرم تحمُّل هذه المنغصات، ومن اللؤم تكبيرها، وتفسيرها، وتحميلها ما لا تحتمل، ومن الكرم وحسن الخلق تغميض العينين عما يشوب العلاقة؛ فالإغضاء أمر مهم لدوام العلاقة، أما تتبع العثرات وتصيدها وتحديق النظر إليها، فهذا يعجِّل بانتهاء زمن الحب، بل لا تكاد تجد رفيقًا، ولن يسلم لك حبيب؛ وفي ذلك يقول الشاعر:

 

والتعامي عن هفوات الرجل من كرم الزوجة، ولكن أيضًا عليها أن تُقَدر الضغوط التي يواجهها الزوج، ومشاق الحياة، وطبيعتها المتعبة، وأن تعلم أنها تستطيع بذكائها أن تكسب عقله، وتستميل قلبه، وتجره إليها جرًّا برقتها.

 

ولا يُعَد التعامي عن الأخطاء وتمريرها جبنًا، ولكن للحفاظ على هذا البناء الشامخ من أن ينهار فجأة، أو تضربه صاعقة، فتهد منه جانبًا؛ وفي هذا يقول الشاعر:

 

ولا أقصد هنا الأخطاء الكبيرة التي لا تحتمل، إنما الأخطاء اليومية المتكررة، والروتين الذي يجري بسبب وضع البيت أو العمل أو إعداد الطعام أو الأولاد، وما شابهه ذلك، فما يجري بسبب هذه القضايا لهو أمر هين، لا ينبغي أن يشتد فيه الخصام، وتتطور فيه المهاترات، ويكثر بسببه العتاب والشدة والهجر.

 

الحياة الزوجية قيامها لا بد أن يكون على الود، فإن لم يكن ودٌّ، فلتكن هناك رحمة ﴿ وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ [الروم: 21].

 

يجب أن تظل الزوجة سكنًا كما وصفها القرآن بذلك، ولا بد للزوج أن يبني هذا السكن ويحسن بناءه، ويهتم بجماله وحُسنه، ويحافظ على صفائه ونقائه، وأن يرمم هذا البناء كلما داهمه الخطر؛ لئلا يقع فينهدم على أهله، وتضيع أسرة بكاملها، كما أنه من الضرورة أن يشتغل بإحسانه دومًا؛ لتظل فيه البهجة والحياة، ويبقى فيه الأنس والراحة، والطمأنينة والانشراح، وطيب الخاطر، وجمال الإمتاع والمؤانسة.