منوعات

الزواج المبكر – مكساوي –

الزواج المبكر

تزايد الجدل الدائر حول الزواج المبكر في هذه الأيام، وقد بيَّنت في مرات سابقة أنه لا يجوز تحديد سنٍّ لا يجوز الزواج قبله؛ لأن ذلك مخالف للشرع، ومخالف للمصلحة، ومخالف لأهداف الزواج في الإسلام؛ التي من أهمها إحصان الأمة المسلمة رجالًا ونساء، وسد أبواب الوقوع في الفاحشة، وكذلك من أهداف الزواج في الإسلام تكثير الأمة المحمدية؛ كما حث على ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم؛ كما في قوله: ((تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة))[1].

 

والزواج المبكر يساعد على تحقيق هذين الهدفين، وتأخير الزواج قد يفوتهما؛ فقد يقع الشاب أو الشابة في حال تأخر الزواج في الفاحشة؛ لكثرة دواعيها في هذه الأيام، كما أن تأخير سن الزواج من الوسائل لتحديد النسل الذي يناقض أهداف الزواج في الإسلام.

 

واليوم أكرر الحديث عن هذا الموضوع لاستمرار الجدل، والحديث حوله بشكل كبير، وبأساليب مختلفة لبعض المتحدثين، خارجة عن الأدب واللياقة، بل عن العقل، وعن الجدل بالتي هي أحسن.

 

ولأن هناك من لا يستطيع أن يصل إلى هدفه إلا بالهمز واللمز، والطعن والسخرية والاستهزاء بمن يخالفه، وهذا الهزء والسخرية مناقض لأخلاق الإسلام، بل لأخلاق كل إنسان مستقيم على الفطرة؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11].

 

بل إن الاستهزاء في بعض الأحيان قد يصل بصاحبه إلى الكفر؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة: 65، 66]، وهذا الاستهزاء والسخرية بالمخالفين ظهر على عدة أشكال، فهناك مقالات صحفية، وبرامج إذاعية وتلفزيونية، وهناك مسرحيات أو تمثيليات، وهناك رسومات كاريكاتيرية من صحف أو منشورات أو ملصقات كلها بأساليب ساخرة، مستهزئين بمن يعارضون فكرة تأخير سن الزواج، وهذا الأسلوب لا ولن يفلح في إصلاح الوضع، أو إقناع المخالف، بل سوف يزيده إصرارًا على رأيه وتمسكًا به، وقد يُورِث ردودَ فعلٍ معاكسة، تترتب عليها فتن ومفاسد كثيرة.

 

وقد وصل الحال ببعضهم أن وصف المعارضين لتحديد سن الزواج بأنهم خوارج، وأنهم متشددون وإرهابيون، وهذا من جهله الشنيع أو عناده الشديد؛ لأن الذين حكموا بعدم تحديد سن الزواج ليسوا دعاة وعلماء اليوم، ولكنهم الصحابة والتابعون والأئمة وعلماء الأمة جيلًا بعد جيل حتى هذا اليوم؛ قال الإمام العلامة ابن بطال رحمه الله: أجمع العلماء أنه يجوز للآباء تزويج الصغار من بناتهم، وإن كُنَّ في المهد، إلا أنه لا يجوز لأزواجهن البناء بهن، إلا إذا صلحن للوطء، واحتملن الرجال، وأحوالهن في ذلك مختلف في قدر خلقهن وطاقتهن[2]، ونقل مثل هذا الإجماع النووي وابن قدامة وابن عبدالبر وغيرهم.

 

فهل جميع هؤلاء العلماء خوارج، أو أن الخارجي هو الذي خرج عن إجماع الأمة واتبع أعداء الله؟ لا شك أن الخارجي هو من اتبع أعداء الله، وخالف إجماع علماء المسلمين؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115].

 

ووصل ببعضهم الجهل القبيح والتعالم الفاضح أن اعتبر القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بعائشةَ وهي بنت تسع سنين، أن ذلك سُبَّة وخزي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب علينا أن ننزهه عنه، نعم، إنه قلب للمفاهيم، وانعكاس للفطرة، وطمس للبصيرة أن يجعل أمرًا ثبت فعله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري، ولم يخالف فيه أحد من علماء المسلمين المعتبرين، واعتبره العلماء من محاسن التشريع، ومكارم أفعال النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل ذلك سوءة وعارًا، يجب تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عنه، لماذا؟

 

لأن الكفرة الفجار أهل الفحش والرذيلة، الغارقين في الدعارة، المقرين لحمل مئات الآلاف من البنات القاصرات من الزنا ومعاشرة الأخدان، وهن صغار – لأن هؤلاء استحسنوا زنا الصغيرات، واستقبحوا زواجهن، يأتي من يتظاهر بالغَيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنصدق هؤلاء، ونكذِّب صحيح البخاري، وإجماع المسلمين؛ أي انحراف هذا الذي يروج له هؤلاء الناس؟

 

إن زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة في تلك السن من أعظم حكم الله، ومن أجل تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم عقد عليها وعمرها ست سنوات، ودخل بها وقد بلغت وسنها تسع سنوات، وتوفي عنها وعمرها ثمانية عشر عامًا، ومكثت معه تسع سنوات، ولو أنه صلى الله عليه وسلم وافق مزاج هؤلاء الكتَّاب، وأخَّر الزواج بعائشة إلى سن ثمانية عشر سنة، فكم ستكون الخسارة؟

 

إننا سنخسر امرأة وصفها رسول صلى الله عليه وسلم بأن فضلَها على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، سنخسر امرأة عالمة فقيهة محدِّثة، رَوَتْ لنا أدق التفاصيل عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، وشاركت مشاركة عظيمة في نقل سننه العامة، وهي من أكثر الصحابة رواية للحديث؛ إذًا أليس زواج النبي صلى الله عليه وسلم بها في تلك السن المبكر كان لحكمة عظيمة، وكان مفخرة له ولها، ومنفعة للدين وللمؤمنين إلى يوم القيامة؟ فكيف يُقال: يجب أن ننزهه عن ذلك؟ أليس هو الانبهار بكلام الكفار والشك فيما عليه المسلمون الأخيار؟

 

إن مجاراة أعداء الله في نظمهم وقوانينهم وتعريفهم لبعض الحالات التي تترتب عليها أحكام شرعية – إن مجاراتهم في ذلك جرم عظيم وجناية على الدين وعلى الأمة جسيمة، وهو الأساس الذي ينبني عليه أخطاء ومخالفات أخرى كبيرة وخطيرة، وفي موضوعنا الخطأ الفاحش الذي اعتُبر قاعدة بُنيَت عليها عدة مخالفات، وما زالت تُبنى عليها المخالفات حاضرًا وستُبنى مستقبلًا، ذلك الخطأ هو اعتبار سن البلوغ هو ثمانية عشر عامًا.

 

مع أن علماء المسلمين قد جعلوا للبلوغ عدة علامات، أكثرها لا يُحدَّد بسن معينة؛ وهي إنزال المني، ونبات الشعر الخشن حول الفرج، وبلوغ خمس عشرة سنة، وهذه العلامات الثلاث يشترك فيها الرجال والنساء، وهناك علامتان تخصان النساء؛ وهما الحيض والحمل، وهذه العلامات أكثرها يقع عند الكثير من الرجال والنساء قبل سن الخامسة عشرة، بل إن كثيرًا من النساء تحيض لتسع سنين أو لعشر، وفي كثير من الأحيان لإحدى عشرة أو اثنتي عشرة سنة، وهي بذلك تكون بالغة؛ يقول باحث فلسطيني وهو أستاذ مشارك في جامعة القدس: “وأما تسمية من تتزوج قبل الثامنة عشرة بأنه زواج مبكر، فلا يستند ذلك إلى قاعدة علمية، أو قاعدة شرعية؛ فأمر الزواج مربوط بالبلوغ، والبلوغ الكامل عند الفتاة وهو الفترة الزمنية التي تتحول فيها الفتاة من طفلة إلى بالغة، وخلال هذه الفترة تحدث تغييرات فسيولوجية وسيكولوجية عديدة”.

 

والبلوغ ليس بحدث طارئ، وإنما هو فترة من الزمان قد تتراوح ما بين سنتين وست سنين، ويرتبط بعوامل جينية (وراثية)، وعوامل معيشية وصحية، وفي آخر هذه الفترة يحدث الحيض، وعندها تصبح الفتاة بالغة.

 

وأما سن البلوغ فيتراوح عالميًّا ما بين 9 – 16 سنة، وفي بلادنا ما بين 11 – 12 سنة حسب دراسة علمية صادرة عن الجامعة الأردنية.

 

وإذا كانت المرأة قد أصبحت بالغة وعمرها 11 أو 12 سنة، فإن إلزامها بتأخير الزواج إلى 18 سنة هو انتقاص لأهليتها، وحجر عليها في حريتها، وهذا خلاف ما ينادي به دعاة تحرير المرأة؛ إذًا فهم متناقضون؛ لأنهم يتبعون الهوى وليس المصلحة الحقيقية.

 

ولقد تبارى دعاة تأخير سن الزواج في تعداد الأضرار التي تترتب على الزواج المبكر، وبالغوا فيها وضخَّموها، وكأن هذا الشيء بدعة حدثت قبل عشر أو عشرين سنة، وهذه مغالطة كبيرة؛ فالزواج المبكر جارٍ منذ أن خلق الله بني آدم، ولم يتحدث الأطباء والمؤرخون والباحثون والاجتماعيون ولا غيرهم عن هذه الأضرار، ولم يعيروها أي اهتمام، فلماذا قفزت هذه القفزة في هذه السنوات القليلة؟ إنها مجرد دعايات خالية من البراهين، نعم، لا يخلو الزواج المبكر من أضرار، كما لا يخلو الزواج المتأخر من أضرار، ولكنها طبيعية، لا تغير من حكمهما، ولا تمنع منهما، فلا يمكن لمعشر المؤمنين أن يصدقوا هذا الهُراء الذي يُوظَّف لأغراض مشبوهة.

 

ثم أليس من التناقض العجيب أن هذه المنظمات النسوية والحقوقية تشكو بمرارة من تزايد نسب العنوسة لدى النساء في العالم العربي، ثم تمنع من أهم أسباب القضاء على العنوسة؛ وهو التشجيع على الزواج المبكر؟ أليس هذا التناقض دليلًا على أن هؤلاء الناس وتلك المنظمات تقول ما يقوله لها أسيادها من مفسدي الغرب، وأعداء الأمة الإسلامية، دون وعي؟ ألَا فليتقِ الله أولئك الناس وليكن انتماؤهم لدينهم وأمتهم، ويتركوا الانتماء والولاء لأعدائهم؛ لأن ذلك منافٍ للدين، ومنافٍ للهُوِيَّة العربية والإسلامية، وللمصلحة العليا للأوطان والشعوب، ولن يفلح قوم هذا مبدؤهم، وذلك شعارهم؛ قال تعالى محذرًا من الانصياع لأعداء الله واتباعهم فيما يريدون وطاعتهم فيما يأمرون به؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد: 25 – 28].

 

إني أقول ما سمعتم ولست من دعاة الزواج لعشر سنين أو اثنتي عشرة سنة أو نحو ذلك، ولكنني أدعو أن يُترَك للناس تقدير مصالحهم ومصالح أولادهم، ولا يُلْزَمون بشيء قد يخالف تلك المصالح ويضطرهم للوقوع في مفاسد أو مغالطات، إن الناس بشكل عام هذه الأيام تميل إلى تأخير سن الزواج لأسباب مختلفة، فدعوهم وشأنهم، ولا تحرِّموا عليهم ما أحل الله إرضاء لأعداء الله؛ ﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ [التوبة: 62].

رواه أبو داود، 2/ 220، برقم 2050.

عمدة القارئ، 20/ 78.


[1] رواه أبو داود، 2/ 220، برقم 2050.

[2] عمدة القارئ، 20/ 78.