منوعات

إنجيل المصريين المعاصرين – مكساوي –

منذ وجد الإنسان على الأرض تطلع بروحه إلى السماء ليبحث عن قوة أكمل من قوته، وصورة أجمل من صورته تمثل الكمال والجمال اللامتناهي.

وانطلاقًا من هذا الاحتياج نشأ الدين، وكان العنصر الجوهري فيه هو الإيمان بكائن خالد سامٍ مفارق للعالم، وخالق للكون والبشر، ومعتنٍ بهما.

وهذا النزوع إلى اكتشاف الألوهية من أقدم الحاجات الإنسانية، وهو التعبير الفعلي عن افتقاد الإنسان الضعيف الفاني إلى القيم المثالية الكاملة التي تُمثلها الألوهية.

ومن ثم فقد سعى الإنسان منذ القدم للتواصل معها؛ فلجأ حينًا إلى الكهانة والسحر وما صورته مخيلة الشعراء من أساطير، وحينًا آخر إلى العقل الفلسفي وتصوراته، وفي النهاية ركن إلى الوحي الديني بالمفهوم التوحيدي في الديانات الثلاث وهي، اليهودية والمسيحية والإسلام.

ولا يمكن لأحد اليوم أن ينكر أن جدنا المصري القديم، هو صاحب أقدم الحضارات الإنسانية التي اكتشفت عظمة الألوهية وأثرها في العالم، وأنه أول من أدرك وجود الله واخترع الدين والإيمان وفكرة الثواب والعقاب والخلود بعد الموت.

كما أن جدنا المصري القديم، هو أول من نقل القداسة من السماء إلى الأرض، عندما أضفى صفات القداسة على أرض بلاده ونهرها العظيم.

وهو أول من عرف الشكل الأول المستقر للجماعة البشرية، واخترع أول دولة في التاريخ، وأول سلطة وجيش وطني وحكومة مركزية.

وعبر تاريخها الطويل كانت مصر عشق المصريين الأول والأخير، هي أرض الآباء والأجداد، ومستقر الأجساد في نهاية رحلة الحياة.

ولهذا كان بُعد المصريين عن أرض بلادهم بمثابة الخروج من الجنة، والدخول في أرض التيه والغربة التي يُعاني الإنسان فيها مشاعر الحنين والشوق، ويحيا على أمل العودة إليها، وأن يكون مستقره الأخير في باطن أرضها؛ كما فعل جدنا “سنوحي” صاحب القصة الشهيرة في الأدب المصري القديم.

ويُعد الكاتب والمفكر والمؤرخ الراحل الدكتور حسين مؤنس (1911- 1996)، ابن مدينة السويس الباسلة، واحدًا من أعظم عشاق مصر، وأكثرهم فهمًا لخصوصية أرضها، وشعبها، وتاريخها، وثقافتها، وأبعاد علاقتها الإقليمية والأفريقية والدولية، ورسالتها الحضارية.

وقد عبر عن عشقه وفهمه هذين في كتاب صغير الحجم عظيم القيمة، حمل عنوان “مصر ورسالتها الحضارية.. دراسة في خصائص مصر”.

وهو كتاب جدير أن يكون “إنجيلا للمصريين المعاصرين” في عشق بلادهم، وكتابًا للوطنية المصرية يستحق أن يتم تدريسه للطلاب في مرحلة التعليم الثانوي، لكي يُنمي عندهم مشاعر الانتماء والولاء ومقومات الشعور والواجب الوطني.

ولكي يُعلمهم قيمة وعظمة وطنهم وتاريخهم، وخصوصية ثقافتهم وحضارتهم، ويُحفزهم على بذل الجهد لوصل الحاضر بالماضي، وصنع مستقبل واعد يليق بعظمة التاريخ الذي يحملونه على ظهورهم.

وتتضح لنا أهمية الكتاب من معرفتنا بالموضوعات التي يعرضها بلغة مكثفة مفعمة بالحب، تليق بعاشق عظيم لهذا الوطن. وقد جاءت تلك الموضوعات على النحو التالي:

مصر أم الدنيا.

الأبعاد الثلاثة لتاريخ مصر.

مصر وأفريقيا.

مصر والبحر المتوسط.

مصر والشرق.

رسالة مصر .. نور وسلام.

ويُمكن هنا أن نتوقف عند بعض الفقرات التي كتبها الراحل الدكتور حسين مؤنس في مقدمة الكتاب التي جاءت كأنها قصيدة في حب مصر، نبعت من قلب عاشق واعٍ، أحب وفهم بعمق روح وسمات وخصوصية معشوقته.

يقول الدكتور حسين مؤنس:

“في البدء كانت مصر. قبل الزمان ولدت، وقبل التاريخ.

هنا بدأ كل شيء؛ الزراعة، والعمارة، والكتابة، والورق، والهندسة، والقانون، والنظام، والحكومة.

هنا قبل كل شيء ولد الضمير؛ هكذا قال جيمس هنري برستيد في كتاب جليل عن مصر، عنوانه “فجر الضمير”.

والضمير هو ذلك الوازع الداخلي في كيان الإنسان الذي يُنبهه إلى الخير، ويُحذره من الخطأ، ويُحاسبه على ما يقترف من أخطاء حسابًا داخليًا صامتًا، ولكنه أكثر ألما للإنسان من كل عقاب.

وعلى أساس هذا الضمير ظهرت الديانة المصرية القديمة، وكان المصري القديم أول من تنبه بالفطرة إلى حقيقة البعث والحساب.

وفي قلب المصري القديم، وفي بيته وفي مدينته وحقله، في أرضه وسمائه وجدت “ماعت” رمز الضمير والإحساس الإنساني والقانون الأخلاقي. و”ماعت” هي ما نسميه اليوم بالمروءة التي تعني الإنسانية والحب والخير والعدالة والفضيلة.

هذه المعاني كلها اكتشفها المصري القديم، وهو يعمل في حقله وينظر إلى السماء الزرقاء، ويستعطف الشمس، ويعانق النبات الأخضر الطالع.

وعندما اكتشفها المصري القديم وصل إلى أعظم كشف في تاريخ الفكر البشري؛ “اكتشف أنه إنسان”، وأن هناك فرقًا بينه وبين الحيوان؛ فلا تنازع على البقاء وإنما تعاون للبقاء. لا قتل ولا ظلم ولا عدوان، بل حب وتعاون وإخاء.

قرون تجري في أثر قرون، عوالم تولد ثم تموت، ومصر هنا في مكانها، تبني وتنشئ وتُعمر، وتكتب وترسم، وتُنشد وتُصلي، وتتألق وتتوهج، وتخبو ثم تتألق وتتوهج”.

رحم الله الكاتب والمفكر والمؤرخ المصري الأصيل الراحل الدكتور حسين مؤنس، ورحم الله عشاق وشهداء وأبطال ورجال مصر المخلصين عبر كل العصور.