منوعات

رحيل كائن زجاجي… قراءة في العتبات


المزيد من المشاركات

رحيل كائن زجاجي…قراءة في العتبات

 

تمثل جملة العنوان (رحيل كائن زجاجي) تجسيدًا أكثر شمولًا للرحيل / الموت؛ إذ الرحيل لم يقتصر على الإنسان وحده؛ ولكنه مصير كل كائن، وتأتي كلمة كائن بوصفها حاملًا نهائيًّا لدلالة عدم الاكتراث بالراحل، فهو كائن مجهول، غير محدد؛ ولكنه يجسد الرؤية الحقيقية الماثلة في النص أو التي يفصح عنها النص، أم أنه يضع الكائن اللاإنساني في عتبات الرحيل، ليؤكد وحدة المصير، أو ليخلق فسحة يتنبه بها الإنسان لمصيره ومصير كل شيء؛ لكن تلك الفسحة لم تكن ذات بُعْد مكاني يسمح بالهروب من الموت أو الاستعداد له، فالعتبة الأولى/عتبة الغلاف تحمل في طيَّاتها بذور نمو النص/ المجموعة القصصية كلها، فالموت يطغى على بنية النص منذ الكلمة الأولى في العنوان (رحيل) والموت لا يكترث بشيء ولا بأحد.

 

لكن الإشكالية في ورود اسم المؤلف بعد العنوان مباشرة دون أي فاصل توضيحي، كأن يقول تأليف، أو كتبها ناصر خليل مثلًا، وكان بإمكانه أيضًا الهروب باسمه إلى أعلى صفحة الغلاف؛ لكنه لم يفعل، وجعل من نفسه الكائن الزجاجي المُحطَّم الراحل.

 

وإذ تبدأ التجربة بالتصعيد في محاولة غريبة في الفكاك ممَّا أثبتته صفحة الغلاف الأولى فيفصل بين العنوان واسمه مرة بكلمة (قصص) في الصفحة الأولى بعد الغلاف، ومرة بعبارة (مجموعة قصصية قصيرة) في الصفحة التي تليها، ليؤكد ذلك القلق الشكلي – في الصفحات الأولى من المجموعة القصصية – الحقيقةَ التي يتبلور فيها القلق النفسي للمبدع.

 

ثم يفصل الإهداء إلى بستاني النداف بين تأكيد الحقيقة التي أشرنا إليها، واقتباس يصور الموت زائرًا يحطم الحياة من عبارة للشاعر والفيلسوف الألماني (نوفاليس Novalis) يقول فيها: (… كان ذلك هو الموت الذي اقتحم المأدبة كي يقذف بالخوف والألم والدموع…) ليؤكد كل معنى ودلالة أشرنا إليها قبلُ؛ ولكن الغريب في الأمر أن الإهداء لصديقه المبدع بستاني النداف، في ذلك الموضع الذي تزدحم فيه الصورة بنذر الموت! فلمَ هذا الإهداء؟ ولمَ كان بستاني في هذه الصفحة… قبل…وبعد؟ هل لأنه الرابح الوحيد؟ أم المنتصر الأوحد في هذه السياقات الفنائية؟ أم هي أشياء أخرى غير ما أقول؟… لست أدري!

 

تبدأ المجموعة القصصية “رحيل كائن زجاجي” للمبدع ناصر خليل بتصعيد غريب للفاجعة؛ إذ تبرز الرغبة في فعل الرحيل، فإن سيطرت مخالب الموت على المجموعة القصصية منذ كلماتها الأولى إلا أن أول قصة في المجموعة (سطح أملس) تكشف رغبة ذلك الكائن/الإنسان في الرحيل، وإن كانت القصة تُصوِّر لنا لحظات الصعود للموت/الانتحار، فهو فعل المنتحر ورغبته، فالقصة تُصوِّره صعودًا وشبقًا جامحًا في نفس الإنسان نحو الموت، هي ليست صورة مجردة للمنتحر؛ ولكنه جموح نحو الشرط الإنساني وحتمية السعي المُدمِّر نحو الموت، وكأنه جانب من الكدح الذي وصفنا به القرآن الكريم: ﴿ يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾ [الانشقاق: 6].

 

أما آخر عتبات النص فإن آخر قصة في المجموعة، عنوانها (اللحظات الأخيرة) فإن كانت القصة الأولى صعودًا نحو الموت، فلتتحقق تلك اللحظات الأخيرة، وكأنها تروي نهاية الصراع والكدح نحو الموت لتكون اللحظات الأخيرة، تُصوِّر لحظات انهيار الإنسان واستسلامه الطبعي إلى الموت، والجميل أن آخر عبارات القصة تشير إشارة واضحة إلى ذلك التسليم، إذ يقول: “…تشعر بأن الظلام يزحف على كل شيء في الغرفة، تعطي ظهرها لكل شيء تخرج وتغلق الباب خلفها”.

 

ثم يأتي غلاف المجموعة الأخير، عليه صورة المبدع/ناصر خليل، ونصه يفقد أي قبس من الأمل فيقتبس مقطعًا من قصة عنوانها (يومًا ما ستعرف لحنك) ليزحف في حركة عجيبة يكملها النص من الداخل إلى الخارج/من الذات إلى الآخر/منه إليَّ، وكأن عنوان هذه القصة رسالة خاصة/عامة لكل قارئ ينتهي إلى هذا القسم من المجموعة القصصية، يقول له/لنا: (يومًا ما ستعرف لحنك) ثم يحدد ذلك اللحن الذي ربما غرَّنا باسمه/لحن، ليتكشَّف لنا أنه لحن السقوط، إذ يقول في آخر ذلك المقطع الذي على الغلاف: “… إن كل شيء زائل وآخذ في التساقط حتى لو أطربنا لحن سقوطه”.

 

صدقَ واللهِ ناصر خليل في كل ما قال، ولا أقصد بقولي صَدقَ وصف صِدق خبر ورأي، ولكنه صِدق إحساس، وبراعة إبداع استطاع به أن يؤثر في مُتلَقِّيه تأثيرًا هو الهدف الحق من كل إبداع أدبي.

 

فتحياتي وتقديري لعمله إلى أن تسنح لي فرصة أعمق لأتناول المجموعة القصصية وغيرها تناولًا أكثر شمولًا.

رابط المصدر