منوعات

عن تجربة وخبرة صفاء الليثي أتحدث

قبل عدة أسابيع كان أحد منظمي المهرجانات السينمائية يهاتفني ويتحدث معي بشأن أحد حواراتي، مُشيراً إلى «روعته التي لا تناظر سوى روعة الوعي والإدراك، والتي لا يقدر عليها سوى فلاسفة الفن والوعي والإدراك».
شعرت بالخجل من المديح والإطراء. في مثل هذه المواقف لا أجد كلمات، وأشعر أن الإشارة للجوانب السلبية مفيدة أكثر لتجربتي ويُضيف إليَّ إذ يمنحني زاوية جديدة للرؤية.. لذلك شكرته وبدلت مجرى الحوار فوراً بسؤالي:
«لماذا لا تكرمون صفاء الليثي..؟» كنت أعرف مساحة الود والنقاش المتبادل بيني وبينه وثقته في آرائي وفي موضوعيتي، فقد كان يستشيرني أحياناً في أسماء الشخصيات.. لذلك سألته وأنا مطمئنة.
لن أحكي تفاصيل النقاش بالطبع، لكن مضمونه يكشف عن وجود لبس واضح في الجيل الذي تنتمي إليه صفاء؛ إذ يعتبرونها من جيل أواخر التسعينيات، مما يُهمش تجربتها ويضعها في مقارنة مع ناقدات وصحفيات من أجيال لاحقة، وذلك رغم أن صفاء لعبت دورا في نشر الثقافة السينمائية بحضورها المهرجانات في مصر – وخارجها – والكتابة عن الأفلام، في الموقع والمجلات والصحف، والمشاركة الفعالة دوما في الندوات عقب عروض الأفلام، هى نشيطة جداً بأفكارها على السوشيال ميديا، وتتفاعل مع التكنولوجيا الحديثة بسرعة، فحين ظهر المونتاج غير الخطي تجاوبت معه كتابة ولم تتوقف عند «المافيولا»، مثلما كانت سريعة في إنشاء «مدونة الفيلم» لتدوّن عليها أفكارها ومقالاتها السينمائية خصوصا عندما لا تجد مكانا للنشر.
دهشة وإشكال
كنت مندهشة، ليس فقط لأن صفاء تجمع بين تجربتين؛ المونتاج والنقد وكذلك الإنتاج. صحيح أن مشوارها في المونتاج ليس طويلاً، لكن الخبرات لا تُقاس دوماً بعدد الأعمال، مثلما يُحسب لصفاء أنها تعلمت – نظرياً وعمليا – على أيدي كبار المبدعين مثل محمود مرسي، وسعيد الشيخ، وأحمد متولي الذي عملت معه وتزوجته وأنجبت أبناءها الذين تأثروا بهذا العالم السينمائي، وقامت بمونتاج العديد من الأفلام القصيرة، وأُوكلت لها مهمة مونتاج فيلمين روائيين طويلين بمفردها؛ «الحجر الداير» و«ثلاثة على الطريق» والأخير حصدت عنه صفاء جائزة بمهرجان دمشق السينمائى.
مشكلة صفاء أنها مثل كثير من النساء المبدعات في مصر، حين تتزوج الواحدة منهن لابد أن تضحي بموهبتها، ومهنتها، خصوصاً إذا كانت ظروف الحياة الاقتصادية صعبة لا تُمكنها من إيجاد مَنْ يُساعدها في إدارة شؤون البيت ورعاية الأولاد. إضافة إلى أزمة السينما المصرية في التسعينيات وانحسار الإنتاج لنحو الثُمن.
ولدت صفاء في عائلة مثقفة تهتم بالفنون، وأخذت جينات الاختلاف أو الاستقلال والتعبير عن نفسها من شخصية والدتها، والتي دعمتها نوعية الأفلام التي كانت تشاهدها – أفلام أوروبية وروسية ويابانية راقية بفضل الظرف السياسي آنذاك في الستينيات – لذلك لذلك لا أندهش من تفكيرها في الاتجاه للكتابة للتعبير عن نفسها، وللقرار الذي اتخذته في لحظة ما، أثناء مرحلة انتقالية ثورية في حياتها، عندما قررت أن تضع مكتباً في غرفة النوم لتمارس فعل الكتابة، لتشعر بوجودها كإنسانة لها كيان. صحيح أنها كانت تكتب القصص والخواطر والزجل منذ مرحلة مبكرة في حياتها لكن ممارسة الكتابة النقدية مرحلة أخرى تتوّج هذه الكتابات السابقة.
لماذا تُعجبني صفاء؟
طوال ثلاثة أيام مضت قضيت أوقاتي ممتعة مع خمسة كتب لصفاء الليثي، منها كتاباها عن فنانة المونتاج رحمة منتصر، وعواد شكري، و«القيم الاجتماعية كما تعكسها أفلامنا» نواة دراسة بحثية مهمة جداً لو ابتعدت عن العشوائية واتخذت معياراً علميا ومنهجاً في الاختيار والعمل، ومجموعة قصصية ممتعة بسخريتها التلقائية وقدرتها على التكثيف والقبض على اللحظات الإنسانية بعنوان: «مونولوج». كما أن لديها كتبا سابقة اطلعت عليها في حينها بإعجاب وأهمها «نادية شكري.. سيدة الصحبة».
أتابع تجربة صفاء منذ كنت أعمل في إعداد البرامج السينمائية بقناة النيل للدراما منذ بثها التجريبي في أواخر التسعينيات. استضفتها في عدد من البرامج. كنت أتأمل آراءها في الندوات، وكانت في أغلبها تروق لي، فكنت أجدها في مرات عديدة تعبر عما كنت أشعر به.
رغم عملي بالنقد، لم تربطني يوما الصداقة بصفاء، خصوصا أنني أميل بطبعي للعزلة، وهو أمر لا يُدركه الناس أحياناً. كنت أتأملها من مسافة كما أفعل مع آخرين. عادة أُعجب بالشخصيات عن بُعد، وقد تكون علاقتنا مرتبكة في التعامل، وهم لا يُدركون أنني أُكن لهم احتراماً رغم اختلافنا في بعض الأوقات.
وشخصية صفاء كانت تعجبني في كثير من جوانبها، لأنها تمتلك روح الطفلة، تمتلك سخرية ظريفة، وجرأة في الحكي، تسرد بروح الروائية، أصدقها وأتفهم شعورها حين تغضب، حين لا يعجبها شيء تعبر عن نفسها في كثير من الأحيان من دون حسابات. إلى جانب إحساسها بالأفلام وكيف تفسرها.
تفجَّر الوعي عند صفاء منذ مرحلة مبكرة في حياتها بسبب الظروف المحيطة؛ أخ فنان تشكيلي يعشق السينما ويصطحبها أسبوعياً لحضور العروض مع أخواتها أو مع أفراد من العائلة، هذا الجو الثقافي المتنوع، قراءتها للأدب مبكراً، اختلاطها بأجواء المثقفين ساعدها في أن تجمع بين فنون السينما والمسرح والرواية، ففي المرات التي جمعتني بها لجان اختيار الأفلام – بالإسماعيلية والقاهرة السينمائى – كنت أكتشف ثقافتها الروائية من الأدب العالمي، وهذا منح تجربتها خصوبة إضافية.
جاءت صفاء الليثي من عالم المونتاج، حيث القدرة على إنجاح الفيلم تبدأ من موهبة الكشف عن نقاط ضعفه وإحياء الزمن الميت به، كذلك القدرة على تحقيق إيقاع نابض للفيلم. هذا في حد ذاته مدرسة خصبة جدا للكتابة النقدية عن الأفلام. إذن صفاء تمتلك خصوصية لا يمتلكها الكثيرون؛ لذلك هى متميزة في مجالها، تحديدا حين تمنح الوقت الكافي والصفاء الذهني للكتابة ولا تتعجل الأمور. فهى أحياناً تمتلك أفكاراً وأحاسيس مثل الجواهر الثمينة، لكنها فقط تحتاج منها الصبر والعمل عليها طويلاً، وعميقاً، وأحياناً تحتاج إلى «تحرير المادة» خصوصاً مع الأعمال التي تحتاج إلى نفس طويل، وهذا ليس عيباً فكثير من كُتاب الرواية العالميين تُسلم أعمالهم إلى «إيديتور» أو «الكاتب الشبح».
مع ذلك، يدهشني دوماً دأب صفاء الليثي في البحث عن مشروع تنغمس فيها، مثلما تُدهشني قدرتها على التعامل بأريحية ومرونة كبيرة مع أجيال شابة، كأنها منهم أو رفيقتهم، فهى تمتلك تلك الموهبة في تكسير حواجز الزمن بين الأجيال، إنها روح الطفلة، المشاكسة؛ لذلك دوماً كانت تبحث عن شيء تشارك به في المهرجانات، سواء بتنظيم معارض عن مخرجين ونقاد بارزين في مهرجان القاهرة السينمائي، أو كتب في المهرجان القومي ومهرجان الإسماعيلية.
شيء أخير من الضروري أن أتوقف أمامه، شيء ذكرته عندما فكرت في نشر مجموعتها القصصية الأولى «مونولوج» قبل عدة سنوات، وذهبت لروائي مصري بلغت سمعته الآفاق، وأصبح مسؤولاً عن دار نشر تخص زوجته، فبعد أن قرأ، سألها بدهشة: «الحاجات دي حصلت لك؟»، فما كان من صفاء إلا أن دفنت مجموعتها القصصية في أحد الأدراج كأنها تواري «الفضيحة».. حتى نسيت السؤال والموقف، وأخذتها الشجاعة لتنشرها مؤخراً.
فلنتخيل روائياً، المفروض أنه مبدع، لكنه حين يقرأ عملاً قصصياً لزميلة امرأة يسألها: «الحاجات دي حصلت لك؟».. إن جملته تعبير عن ثقافة مجتمع ازدواجي، جملته تكشف كيف يُحاكم المجتمع المرأة المبدعة، وكيف ينظر للرجل المبدع؟ لذلك هو مجتمع «أعرج» للأسف.
لكل امرأة مثل صفاء الليثي أقول: اكتبي، لا تتوقفي، ارمي الشكوك خلف ظهرك، ولا تهتمي بنظرات الآخرين، فقط عبّري عن نفسك، لا تشغلي بالك. ولصفاء الليثي أقول: نعم تجربتك تستحق السرد والنشر. ولك ألف تحية.