منوعات

الرثاء تخليدا رمزيا للمرثي في شعر الخنساء

الرثاء تخليدًا رمزيًّا للمرثي في شعر الخنساء

 

لا يجرؤ باحث تخصَّصَ في نقد الشعر العربي القديم وقراءته على تناوُل شعر الرثاء دونما أن يُعرِّج على شاعرة فذَّة ضربت شهرتُها في الآفاق كالخنساء، فهذا الغرض الشعري لم يقتصر الإبداع فيه على الشعراء الرجال كما قد يذهب بالبعض الظَّنُّ؛ ولكن برع فيه أيضًا كثيرٌ من الشواعر، وهذا أمر طبيعي؛ لأن البكاء والندب تجيده النساء أكثر من الرجال، الذين يقوون على تحمُّل المصائب، ويضبطون انفلات مشاعرهم، ويحبسون انهمار دموعهم، إلَّا ما تسرَّب منها قهرًا[1]، وقد أجادت الخنساء في فنِّ الرثاء كثيرًا، وتركت خلفها قصائد شعرية رائعة ما زالت تتردَّد على الألْسُن، وتطرب لها الأسماع، وتهتزُّ لمعانيها الأرواح، بكت فيها أعِزَّاء على قلبها وأقرباء لها، لم تقدر على تحمُّل فِراقهم وبُعْدِهم، وقد كانت هذه القصائد تُعبِّر عن مدى حُبِّ المرثي وقربه وعُمْق الصِّلة به، وتتحدَّث عن عظيم خصاله، وعن شِدَّة الأثر الذي خلَّفه رحيله في النفس، كما شكَّلَت أشعار الخنساء بما احتوته من معانٍ ودلالات إنسانية نفيسة وقفة مثالية أمام حقيقة الموت وجدلية الحياة والفناء، التي تدور عليها نواميس الكون، كما مثَّلت لحظة مثالية من التأمُّل الوجودي والرُّوحي في قوة الدهر وجبروت الزمن، التي لا تُضاهيها قوة، ولا يردعها رادع.

 

وقفة مع الخنساء الشاعرة:

لا يوجد مصدر من مصادر الشعر العربي القديم لم يتحدَّث عن الخنساء الشاعرة، التي كادت تفقد روحها بعدما جفَّت دموع عينيها بكاء على مصائبها في فقدان أخيها معاوية، ثم بعده صخر، فمن هي هذه الشاعرة؟ وكيف قدَّمتها مصادر الشعر العربي؟

 

الخنساء: الاسم والنسب:

قبل تناول شيء من شعر الخنساء بالدراسة والبحث لا بُدَّ من إطلالة على سيرة هذه الشاعرة العظيمة، ومن وقفة تأمُّلية مع الظروف والأحداث، التي عاشتها وصقلت موهبتها، وجعلتها تبُثُّ شعرًا باكيًا، كله رنين ينهل من ألم ومواجِع الحياة.

 

هي الخنساء بنت عمرو بن الحارث بن الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر، واسمها تُماضر، والخنساء لقب غلب عليها، وفيها يقول دريد بن الصمة، وكان خطبها فردَّتْه، وكان رآها تهنئ بعيرًا:

 

وقد جاء في المؤتلف والمختلف: الخنساء بنت عمرو بن الشريد، كانت شاعرة وأسلمت، وهي التي ترثي أخاها صخرًا بالأشعار النادرة، ومن ذلك قولها فيه:

 

ويقال: إنَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يأمرها أن تجلس فتندب أخاها، وتبكي على أخيه زيد بن الخطاب[3].

 

ولادتها:

وجد القدماء صعوبةً بالغةً في معرفة تاريخ ولادة الخنساء الشاعرة بالتحديد، وذلك راجع لعدم اهتمام العرب في الجاهلية بالتدوين أو التأريخ، غير أن ما يجمع عليه الرُّواة في العموم أن تُماضر بنت عمرو السلمية كانت شاعرةً مخضرمةً؛ أي: عاشت بين عصرين مختلفين، هما الجاهلية والإسلام، وقد كانت حياةُ الخنساء طبيعيةً هادئةً ولم يتنبَّأ أحد بتفتق موهبتها الشعرية في يوم ما، وتُشير بنت الشاطئ في كتابها “الخنساء” إلى مسألة تاريخ ولادتها قائلة: “ومن ثم أراني أوثر نهج الأقدمين، فلا أتكلَّف البحث عن يوم مولِدِها الذي ضاع في غمار الزمن، وإنَّما حسبي أن أقول: إنها ولدت حوالي منتصف القرن الأول قبل الإسلام، فأدركت المبعث، ولقِيَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في العام الثامن للهجرة، وهي في طلائع شيخوختها، وإن يكن حزنها على صخر وعلى السادات من مضر قد هَدَّ كيانها، وجعلها تبدو في زيارتها للسيدة عائشة أمِّ المؤمنين حليقة الرأس تدبُّ على عصا”[4].

 

وفاتها:

لقد عاشت الخنساء بعد مقتل بنيها سنين كثيرةً، لا نكاد نسمع لها خلالها خبرًا حتى ماتت في البادية[5]، وإلى جانب القول المشهور بوفاتها عام 26 هجرية أو عام 24 هجرية في أول خلافة عثمان، والفرق إلى هنا هيِّن، والخلاف يسير، يوجد قول بأنها توفيت في زمن معاوية دون تحديد للسنة[6].

 

شعرها

لقد تميَّز شعر الخنساء بالمبالغة في إظهار الحزن وذرف الدموع، حيث كانت الشاعرة تستهلُّ قصائدها غالبًا بالبكاء والتألُّم، قبل أن تمضي إلى ذكر الصفات وتعداد المناقب وخصال الفقيد وسماته وفضائله، وقد تميَّزت أشعارها أيضًا بالتكرار، سواء على مستوى الملفوظات أم على مستوى المعاني والدلالات، هذا علاوة على حالة الدهشة والحيرة، التي كانت تشدُّها وتعصف بذهنها ووجدانها خصوصًا أمام مشاهد الموت والفناء والرحيل في لحظات الافتقاد والحنين والتشوُّق إلى أخويها صَخْر ومعاوية وإلى أبنائها الأربعة المفقودين في معركة القادسية المشهورة، إضافة إلى مواقف التأمُّل في الكون والدهر، التي كانت تُبْديها الشاعرة في كل مراثيها؛ إذ لا بُدَّ من أن نجدها تفصح في قصائدها عن تأمُّلاتها في الحياة والدهر والموت والمصير الذي يمضي إليه الإنسان ومجموع القضايا والإشكاليات الإنسانية ذات الصبغة الفلسفية التي أرَّقَت الإنسان وقضت مضجعه منذ الأزمنة الغابرة.

 

قصيدتها الرائعة في رثاء أخيها صَخْر:

قالت الخنساء في رثاء أخيها صخر:

 

لقد اجتمعت على الخنساء كُلُّ هموم الدنيا، وأصيبت بفقدان أقربائها وأعزائها، وكأن شبح الموت لم يعرف موطنًا له يستقر فيه غير بيتها وأهلها وعشيرتها؛ لذلك كانت كل قصائدها المبثوثة في ديوانها كما يتبدَّى للقارئ أول وهلة طافحةً رثاءً وحزنًا شديدًا ووجعًا، والحقيقة أن تُماضر بنت عمرو السلمية قد ظلت تبكي وتبكي بحرقة بالغة حتى جفَّت الدموع من مآقيها، وحتى اعتلى الشيب رأسها في غير وقته، فكانت أشعارها مرثيات خالدة، ومذكرة تسجل ذكرى أوجاعها وآلامها، أمَّا هذه القصيدة قيد التناول والتحليل، التي قالتها ترثي أخاها صخرًا، فإنها لَتُعَدُّ واحدةً من أروع وأجمل خالداتها.

 

لعلَّ ما افتتحت به الخنساء مرثيتها هذه في تأبينها لأخيها صخر من أعظم وأجمل الابتداءات الشعرية، وخاصة في فَنِّ الرثاء؛ بل إن ذلك يُعَدُّ من أبلغ ما افتتحت به قصيدة من قصائد هذا الغرض الشعري ذي الجذور الأصيلة؛ إذ تقول متسائلة:

وقد رُوي في رواية أخرى قولها: “قذى بعينك أم بالعين عوار”[8] ، وتسائل الشاعرة الخنساء نفسها في مفتتح المرثية ومطلعها في إبداعية شاعرية غير مسبوقة، ماذا حَلَّ بعينك يا خنساء؟ هل هو عوار أصاب عينيك؟ أم أن دموعك قد سالت لخلاء الدار وقَفْرها بعد موت صخر؟ وقد كان صخر بالنسبة للشاعرة الباكية المحزونة يُمثِّل كل العالم، هو أبوها الذي كانت تجده أمامَها كلما تألَّمَت أو اضطربت أحوالُ عيشها، وهو أيضًا أخوها، الذي كانت تجده يقف إلى جانبها يسندها عندما تحتاج إلى العون في أيام الضيق والضَّنْك، وهو أمُّها التي تمنحها الحنان والعطف وتُشجِّعها على الاستمرارية في الحياة والتفاؤل بالغد؛ لذلك قد شكَّل رحيله وخلاء الدار من وجوده مأساةً عظيمةً جثمت على نفسيَّتِها، كما خلق موتُه فراغًا لا يُطاق، ولم تقدر الشاعرة الوهنة على تحمُّله وتقبُّله، وهذا ما جعل الدموع تنهمر من عينيها تلقائيًّا كلما تذكرته.

 

ولو شئنا تقسيم هذه المرثية الرائية الرائعة من حيث مضمونها الدلالي النفسي والوجداني لوجدنا أن الشاعرة قد جعلتها ذات محورين اثنين مركزيين، الأول وخصصته لتعبيرها عن أحزانها العميقة التي خلفها في نفسها رحيل أخيها صخر، حيث جاءت الأبيات الستة الأولى من القصيدة مسجورة بمعاني الآلام والمكابدات الحزينة، ومفعمة بلغة التذكُّر والبكاء وذرف الدموع والأنين، والمحور الثاني كرَّسته الشاعرة كما هو معهود في كل قصائد الرثاء لذكرها مناقب صخر العظيمة ولبكائها صفاته جليلة القدر، التي لا توجد في شخص آخر غيره، حيث جاءت باقي أبيات القصيدة عامرةً بجميلِ الأخلاقِ، مليئة بمحاسن الخصال والأعمال التي اشتهر بها بين أفراد قبيلته؛ إذ كان صخر السيد في قومه، ورمزًا للكَرَم والبطولة والإنسانية والصبر.

 

وتثبت الروايات أن الخنساء قد ارتبطت بأخيها غير الشقيق صخر ارتباطًا وثيقًا يشبه ارتباط الأُمِّ بفلذة كبدها، حيث نشأت بينهما تحت تأثير مجموعة من الظروف آصرة روحية عميقة ووثيقة تتجاوز كل الأواصر، وتفوق في الثبات والقوة سائر العلاقات، لقد كانت وشيجة إنسانية عظيمة تختزل كل معاني النسبة والقرابات وكل ما يكتنف الارتباطات الإنسانية من عواطف ومشاعر، من أجل ذلك نُلْفِيها قد حزنت عليه حزنًا كبيرًا، وتألَّمَت لفقده بصورةٍ استثنائيةٍ، وبَكَتْه عند رحيله بكاءً حارًّا صادِقًا ظَلَّ مذكورًا في التاريخ، ومبثوثًا في دواوين الشعر وكتب الأدب، تقول عن نفسِها واصفةً حالةَ البُكاء والولَه التي سيطرت عليها:

 

ومن خلال هذه الأبيات الثلاثة التي وردت في بداية المرثية تذكر الشاعرة في ألم مصحوب بحشرجة بينة: أنه بعد رحيل صخر ارتكنت خناس إلى البكاء والأنين، وظلَّت على هذه الحال الحزينة ما عمرت وما بقيت على قيد الحياة، حتى أصابها إثر ذلك الوهن، واكتسحها الضعف، وصارت شاحبةَ الجسدِ مفتارًا، أكلت عِظامَها مشاعرُ الحزن ولواعج الفِراق ومكابدات الافتقاد، ولعَلَّ في تكرار الشاعرة للجملة الفعلية “تبكي خناس” ثلاث مرات ما ينهض دليلًا صارخًا وحجة واضحة على حجم الآلام الكبيرة التي أحاطت بها جرَّاء الفاجعة العُظْمى التي أتاها بها الدهر الضرار فجأة على حين غِرَّةٍ، ذلك أن التكرار ما يجيء إلا لتأكيد الشيء وإثباته، وتنتقل بعد هذا الشاعرة إلى عرض مناقب أخيها في بكاء وتألُّم منقبة منقبة عرضًا تفصيليًّا مطنبًا، حيث لم تترك صفة حسنة أو خلقًا كريمًا طيبًا إلا ذكرته ووصفت صخرًا به.

 

لقد كان صخر عظيمًا في قومه، وذا مقام عالٍ ومكانة بارزة فريدة، كان مرجعًا يعود إليه الجميع، المختلفون في الرأي، والمتنازعون في المسائل والقضايا اليومية الاعتيادية، والمحتاجون إلى المشورة الراغبون في الرأي السديد؛ بل إن الهُداة الأدِلَّاء أصحاب الأتباع هم أنفسهم كانوا يأتمون به أيضًا، ويرجعون إليه طلبًا للرشد:

والأغر: المشهور، والأبلج: الأبيض الوجه، والعَلَم: الجبل، والمقصود أن ما اجتمع لصخر من صفات القوة والكرم والشجاعة وسداد الرأي جعله منارةً يسترشد بها الناس.

 

ولقد عمدت الخنساء في مرثيتها الرائعة هذه إلى تقديم صورة شاملة متكاملة عن أخيها صخر، وذلك من خلال تعداد مناقبه، وذكر فضائله وأوصافه سعيًا منها إلى استمالة المتلقي، ونيل تعاطفه ومواساته، وتقريبه أيضًا من هول المصيبة، وحجم الخسارة الكبيرة والفادحة التي تلقَّتها ومعها سائر القوم بفقدانها إنسانًا عظيمًا يندر أن يجتمع لغيره ما اجتمع له من عظيم الأخلاق والصفات.

 

صفة الشرف والسيادة والمكانة العالية:

وتنطلق الشاعرة في بكائها بذكرها أن صخرًا قد كان سيدًا في قومه، ذا مكانة جليلة، مهاب الجانب، شريفًا، عظيم الشأن، والحقيقة أن جميع القصائد الرثائية سواء التي خصصناها بالدراسة والتحليل خلال هذا البحث أم التي لم نُشِرْ إليها، وامتلأت بها دواوين الشعر العربي القديم قد اشتركت في إلحاق هذا الوصف بالمرثي الفقيد الذي اختطفته سهام الدهر فجأةً، وقد رأينا هذا منذ قصيدة المهلهل بن أبي ربيعة في رثائه لأخيه كليب، مرورًا بدريد بن الصمة الذي بكى أخاه عبدالله بكاءً حارًّا، وصولًا إلى مُتمِّم بن نويرة اليربوعي الذي طفحت أشعارُه بالحزن والتألُّم على فِراق أخيه مالك بن نويرة المقتول غدرًا وظلمًا، وقد يكون ذلك من باب المبالغة في المدح الذي تفرضه ظرفية الحزن الناتج عن الفقدان والمصيبة، التي تواطأ عليها الشعراء، وقد يكون ذلك أيضًا من صميم الواقع، حيث تثبت الروايات التاريخية، وتؤكد أن هؤلاء جميعهم قد كانوا فعلًا أشرافًا في قومهم وذوي مكانةٍ عاليةٍ بين أفراد قبيلتهم، جاء في القصيدة قول الشاعرة في أخيها:

وقالت أيضًا في ذات المعنى:

جمال المُحيَّا وضياء الوجه:

لقد ركزت الشاعرة الخنساء في معرض رثائها لأخيها صخر على ذكر حسن جماله، وتعمَّدت الإشارة إلى ضوء وجهه، وبهاء مُحيَّاه، وطلعته تقول:

 

وتقول عنه أيضًا:

 

وتقول كذلك:

وتقول أيضًا:

إن صفة الجمال وبهاء الوجه وحسن الطلعة التي اتكأت عليها الشاعرة في تأبين أخيها حاضرة في المرثية في أكثر من بيت شعري وفي أكثر من موقع من القصيدة، غير أن الملاحظة التي تلفت نظر القارئ الباحث في هذا الأمر هو جنوح الخنساء إلى ربط صفة الجمال والحسن بصفة القوة ورباطة الجأش، حيث نلفيها كلما ذكرت ضياء وجه صخر وجمال قوامه وحُسْن خلقته، إلا وذكرت إلى جانب ذلك في الشطر الثاني من البيت نفسه قوة صخر وبأسه وشجاعته في الحروب وإقدامه على المعركة متسيِّدًا زعيمًا في جيشه، وانحداره من أصل حر وشهم، فهو مورث المجد آباؤه طوال السمك أحرار كما جاء في أحد الأبيات، وعلى الأرجح أن الشاعرة قد كانت بهذا الأسلوب في الوصف الذي يمزج بين الجمال والقوة تسعى إلى أن تنفي عن صخر أن يكون جماله جمالًا أنثويًّا ناعمًا وخالصًا مفتقدًا لخشونة الرجال وقوة الأبطال.

 

الكرم

إن من جليل الصفات التي تحلَّى بها العرب في القديم وخَلَّدت اسمَهم بين العظماء الكِبار صفة السخاء والكَرَم، وقد كان صخر سيدًا في ذلك لا يُنازعه الريادة فيه أحدٌ من قومه، فهو جواد يؤثر الآخرين على نفسه ولو كانت به حاجة وخصاصة، لا يكرم المحتاج في سائر الأيام وحسب، فذلك يعد شأنًا عاديًّا قد يسري على غالب الناس؛ لأن صعوبة العيش في المنطقة العربية كانت تفرض شيوع خلق التضامن والتعاون؛ ولكن صخرًا كان نحَّارًا يُعطي للفقراء أغلى ما يملك أيام الجدب والفقر واشتداد الحاجة؛ أي: عندما يحِلُّ الشتاء، ويعمُّ البَرْدُ، وتقِلُّ الموارد، وينتشر الجوع والفاقة بين الناس، جاء في بيت آخر من القصيدة:

ومطعم القوم عند مسغبهم؛ أي: عند جوعهم وفقرهم، كريم الجد؛ أي: كريم، جزل العطاء، والميسار هو الشخص كثير الفضل، وقد اجتمعت كل هذه الأوصاف في صخر الفقيد الذي رحل وخلف من ورائه عالمًا من الأحزان، والحقيقة أنها أوصاف تُبرِّر ما أصاب الشاعرة من ألمٍ وشحوبٍ، ذلك أن رحيل إنسان في مثل كرم صخر وأخلاقه يعني أن هذه الأوصاف العظيمة قد رحلت معه أيضًا؛ حيث تقول في بيت آخر:

والمهمار هو المكثار في العطاء، والذي يكثر للأضياف في الكرم[9]. وصخر لم يكن كريمًا فقط؛ بل كان كذلك أمَّارًا بفعل الخير، وداعيًا إلى المسارعة بتقديم العون للمحتاجين:

والمقصود أن صخرًا قد كان مطلق اليدين بالخير ذو فجرات ينفجر بالمعروف، وضخم الدسيعة؛ أي: عظيم الخلق، والدسيع الخلق العظيم الشريف، وأصل ذلك من دسع البعير بجرته، إذا أفاض بها وقصع بها، ويُقال: إنه لذو فجرات، إذا كان معطاء وهَّابًا؛ أي: هو ضخم الكلفة إذا تكلف[10].

 

صفة الشجاعة والبطولة:

وإلى جانب صفة الكرم والسخاء قد اشتهر صخر أخو الشاعرة وفقيدها الأثير لديها التي افتقدت في رحيله كُلَّ شيء جميل بالشجاعة والبطولة بين أفراد قبيلته أيضًا، تقول في مرثيتها:

 

لقد كان صخر قويًّا صلبًا بطبيعته الفطرية التي جُبِل عليها، مقدامًا شجاعًا جريء الصدر، يدقُّ الأعناق ويعصرها في ساحات الحرب والوغى، وقد كان التفوُّق في الإقبال على الموت في حضن المعارك يُعَدُّ خصلةً مرغوبةً في عُرْف العرب، ونزيعة مطلوبة تعلي من قدر صاحبها وترفع من شأنه بين الأقوام.

 

ولقد جمع صخر بين صفتين جميلتين قلَّما اجتمعتا لأحد، وهاتان الصفتان هما: صفة جمال الوجه والروح، وصفة القوة والبأس ورباطة الجأش في الحرب:

فهو جميلٌ وضيءُ الوجه بهيُّ الطلعة من ناحية، وتجده من ناحية أخرى مُقبِلًا على الموت في مواقع الحرب لا يخشى العراك ولا يهاب قتال الأعداء.

والمقصود أن صخرًا كان ينزل قائدًا في قومه إلى ساحات الوغى حاملًا في يده ألوية الحرب هابطًا الأودية في الليل المُدْلهِمِّ متجشِّمًا المخاطر والصعاب.

 

لقد كانت هذه أهم المناقب والأوصاف التي وصفت بها الشاعرة أخاها صخرًا ورددتها باكيةً منتحبةً محزونةً في مجموع القصيدة، وهي على الحقيقة أوصاف بالنظر إلى أشعار الرثاء قد أضفاها أصحاب المراثي جميعهم على مَنْ يرثونهم، واتَّكأوا عليها في بكائيَّاتهم، وقد كان الفارق بين شاعر وآخر يكمن فقط في قوة التصوير الفني، وفي طبيعة اللغة المعتمدة في منظوماتهم ومراثيهم؛ لكن الخنساء في قصيدتها هذه ألفيناها تتوقَّف في بعض الأبيات عند ظاهرة الموت كقضية إنسانية كونية ذات جذور ممتدة في التاريخ البشري السحيق، وعند الدهر كقوة غامضة ملتبسة وفاعلة في الحياة، وتمارس شيئًا من التأمُّل والبحث الذهني العميق في السعي إلى الوصول إلى إجابات وتفسيرات.

 

“صخر” والدهر والبحث عن الخلود:

لقد ساهمت مجموعة من الظروف والتحوُّلات والأحداث الإنسانية ذات الانعكاسات والآثار النفسية والوجدانية المباشرة في صناعة إبداعية الخنساء الفنية، وفي صقل تفوُّقها الشعري، ولعَلَّ مصائبها، التي تتالت عليها، الفاجعة تِلْوَ الفاجعة، والنكبة بعد الأخرى، قد كانت سببًا مباشرًا وعاملًا أساسيًّا في اشتهار الشاعرة وبروزها في غرض الرثاء دون غيره من الأغراض، وفي ارتباط اسمها في ذهن القارئ والناقد العربي ارتباطًا وثيقًا بالبكائيات والمراثي بما تحويه من مضمون حزين، وبما تزخر به من محتوى أليم، لقد فقدت الخنساء أباها، وعقب ذلك انتزع منها القدر أخويها صخرًا ومعاوية انتزاعًا، ثم قدَّمَت أبناءها الأربعة دفعةً واحدةً شهداء في معركة القادسية المشهورة في التاريخ الإسلامي، وذلك في سبيل نصرة دين الإسلام، وهذه الفواجع المجتمعة كافيةٌ من دون شك لتدمير أي ذات إنسانية، ولتحطيم النفسية تحطيمًا مهما كانت هذه الأخيرة صلبة وقوية، ومهما كانت مُتسلِّحة بالإيمان أو بالتجربة، فإذا كان الرجل القوي والشاعر الفارس ينتحب انتحابًا، وينوح نوحًا، ويتوجَّع توجُّعًا، عندما يفقد أخاه أو أحد بنيه أو أقربائه، فما بالنا بامرأة ضعيفة بالفطرة غير قادرة بطبيعتها على تحمُّل ما لا يمكن تحمُّله من أثقال الدهر وأوزار مواجع الزمن تفقد كل هذا العدد من الأقارب والأعزاء؟ غير أن الخنساء كما يتبدَّى من شعرها قد صبرت واصطبرت على ما نزل بها من نكبات، وإن كان أشد ما آلمها وانفطر له قلبها هو فقدانها أخاها صخرًا؛ لهذا ألفيناها قد بكته بدموع من دمٍ في أشعارها ومراثيها أكثر من غيره من أقربائها، وبالعودة إلى مَتْن قصيدتنا الراثية الرائية نجد شاعرتنا الخنساء تكرر في غير ما موقع منها اسم أخيها “صخر”؛ حيث رددت اللفظة ثماني مرات، هذا إضافة إلى أن ضمائر الأفعال في المرثية كانت كُلُّها تعود على “صخر” وتشير إليه؛ حيث إنه الموضوع وصلب الرسالة وكل شيء.

 

والحقيقة أنَّ ما حَلَّ بالشاعرة من مصائب ونكبات قد جعلها قريبةً من شبح الموت، تحتكُّ به وتراه وهو يخطف الحياة من أقربائها الواحد بعد الآخر، ويحيلهم في لمح البصر جُثَثًا هامدةً مفرغةً من الرُّوح، مشلولة الحركة، ينتهي بها الحال، منسية في ظلمة القبر تحت التراب، وقد تردَّد لفظ “الدهر” في القصيدة بشكل لافت، حيث جاء ذكرها له في ستة أبيات كالتالي:

 

والدهر في معتقد الشاعرة الخاص حسب منطوق مرثيتها هو ذلك الزمان المنساب على مهل، وفي غفلة من الإنسان الذي يبدأ عده منذ انبثاق هذا الأخير، وخروجه إلى الوجود والعالم، وهو أيضًا تلك التقلُّبات والصروف والتحوُّلات التي يعيشها المرء خلال حياته وتكون تارةً حلوة تحمل إليه بشائر الخير والسعادة، وتغدق عليه بدفقات من النعيم والعيش الكريم، وتارةً أخرى يكون فيها إمرار وسوء ولا تحمل إليه سوى المآسي والآلام، ولا تسبب له غير المعاناة، وتفجعه في أقربائه وأحِبَّائه كما كان الحال مع الخنساء عندما كان وراء فقدانها أخويها وأبناءها، ومفهوم الدهر تناوَلَه الشعراء في الشعر العربي القديم، وأكثروا من ذكره وترديد لفظه، حيث ظهر مفهومًا مجردًا غير محسوس وقوة سامية خفية؛ لكنها مؤثرة، قوة طاغية تفعل فعلها في الأشياء والذوات، لم يتبينوا منبعها، ولم يدرك أحد مصدرها: أهو طبيعي أم إلهي؟ لكنهم نسبوا إليها جميع ما يقع للمرء خلال حياته من حوادث، ولعلَّ أهم ما ارتبط به الدهر في الشعر هو حدث الموت والفناء؛ حيث لا نكاد نجد فاجعةً من الفواجع التي احتفت بها القصائد والمرثيَّات الشعريَّة إلا وكان الدهر من خلفها، وسببًا من أسبابها المباشرة، ولمَّا كان الموت الذي يأتي به هذا الدهر فجأة، ويصيب المرء في حياته، ويُؤدي إلى فقدان الأحِبَّة والأقارب هو أعظم قضية شائكة حيَّرت الإنسان وآلمَتْه، وقضت مضجعه، واستنزفت تفكيره، وأهم سؤال عجز الشاعر العربي القديم على غرار فلاسفة الإغريق واليونان وهم في أرقى مراقي الإبداع الفكري عن الإجابة عنه، وتوقَّف أمامه توقُّف العاجز المحبط، فإن الذات الشاعرة مع ذلك من خلال تأمُّلاتها وإبداعاتها وقدراتها التصويريَّة والتخيليَّة الفَذَّة والخارقة قد سعت في تَحَدٍّ صارخٍ، وفي مواجهة ملحميَّة عظيمة إلى تحقيق الخلود، ومحاولة استنبات أسباب الحياة السرمديَّة في أرض الموت، وفي تربة الفناء والعدم نفسها، وجنحت ممتطية صهوةَ التأمُّل إلى ما يشبه عملية التشرنُق بحثًا عن البقاء الأبدي وعن الحرية المنفلتة من كل القيود وذلك انتصارًا على الفناء، ولقد كانت معظم مراثي الخنساء الشاعرة التي يصدح بها ديوانها الشعري في أخيها الفقيد صخر، ويمكن القول إن “خناس” قد تمكَّنت حقيقة وعمليًّا من خلال بكائيَّاتها من تخليد اسمها إلى جانب اسم أخيها “صخر” على صفحات القصائد والدواوين، وفي كتب التاريخ مانحة نفسها وأخاها حياةً أبديَّةً مُتجدِّدةً تعيش معها كُلّ الأجيال المستقبلية في سائر الحقب والأزمان، صحيح أنها حياة في غياب صاحبها روحًا وجسدًا؛ لكنها تظلُّ نوعًا من الخلود الأسطوري الذي يحيلنا على أبطال الأساطير الإنسانية القديمة الذين خاضوا ملاحم وبطولات تجشَّمُوا خلالها المخاطرات والمغامرات، وولجوا عوالم غريبة، ولعل أسطورة “جالجامش” الراسخة في الذاكرة الإنسانية تُعيد إلى أذهاننا الحلَّ النهائي والأخير، الذي ارتكن إليه “جالجامش” في مسيرة بحثه عن الخلود الأبدي، حيث انبرى إلى عمل الخير ومساعدة المحتاجين والتخلُّق بقيم الإيثار والرأفة والرحمة بالغير، حيث رأى في ذلك طريقًا سالكة تحقق لصاحبها الوجود السرمدي والبقاء في الذاكرة الإنسانية بطلًا شامخًا، ولعل في المناقب التي عدَّدَتْها الخنساء وذكرتها في قصيدتها ما يشترك مع أعمال الخير التي قام بها “جالجامش” البطل الأسطوري في سعيه إلى الخلود.


[1] خصوبة القصيدة الجاهلية ومعانيها المتجددة، ص 427.

[2] الأغاني، الجزء 15، ص 54.

[3] المؤتلف والمختلف، ص 800.

[4] الخنساء، ص 24.

[5] الخنساء، ص 54.

[6] الخنساء، ص 54.

[7] ديوان الخنساء من ص 378 إلى ص 392.

[8] ديوان الخنساء، ص 378.

[9] ديوان الخنساء/ حمدو طماس، ص 47.

[10] ديوان الخنساء 390 – 391.