منوعات

الجهر بالدعوة – مكساوي –

الجهر بالدعوة

 

استمرَّتِ الدعوة السرية واللقاء الفردي بمن يتوسم به الخير مدة ثلاث سنين، بعدها أمَر الله نبيه بالجهر بالدعوة بقوله تعالى: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾ [الحجر: 94، 95]، والصدع بالدعوة معناه الجهر بها وتبليغ أمر الله علانية؛ لذلك نهض النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر بعد أن كفاه الله العتاة من قريش، المستهزئين بدين الله، وكانوا مسموعي الكلمة في قومهم، وهم: الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي وعدي بن قيس والأسود بن المطلب والأسود بن عبديغوث وغيرهم، فكيف كفاه الله شر هؤلاء؟ وهل أخذهم أخذة واحدة؟ لنعرض حال كل واحد من هؤلاء:

أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مِن أشد المعارضين للنبي ودعوته، وقف ضده بكل قوة، وكان الأجدر به مناصرته، لكنه فعل ما لم يفعله قريب بقريبه، وضيق عليه، فأمر ابنيه بتطليق بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم – رقية وأم كلثوم – ليضيِّق عليه وليشغَله ببنتيه، وكان معارضًا عندما دعا عشيرته، وهو القائل له: تبًّا لك سائر يومك؛ ألهذا دعوتنا؟ فنزلت فيه سورة المسد وفي زوجه التي كانت تؤذي النبي صلى الله عليه وسلم برمي القمامة والشوك في طريقه، وكان جاره؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أيُّ جوار هذا يا بني عبدالمطلب؟! وكان يسير خلفه في الموسم بمنى، فكلما دعا قبيلة أو شخصًا قال: يا بني فلان، إنما يدعوكم لكي تسلخوا اللات والعزى؛ فلا تطيعوه ولا تسمعوا له؛ إنه مجنون، وهكذا كان دأبه محاربة الدعوة، وفي غزوة بدر أرسل من ينوب عنه في قتال المسلمين، ولما وردت هزيمة قريش أصيب بالهذيان ومرض بمرض العدسة فمات.

 

الوليد بن المغيرة من بني مخزوم، وكنيته أبو عبدشمس، وهو العدل؛ لأنه كان عدل قريش كلها؛ فقريش كان تشترك في كسوة البيت، وكان وحده يكسو البيت، وقد تكلمنا عنه بإفاضة، أما سبب موته، فقد كان رجل من خزاعة يَرِيش نبلًا، فوطئ على أحدها فخدشته وتسببت في موته، كان ذلك بعد الهجرة بثلاثة أشهر، مات وعمره فوق الخامسة والتسعين.

 

النضر بن الحارث بن علقمة، يكنى أبا قائد، وكان من أشد قريش تكذيبًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وأذيَّةً له ولأصحابه، كان ينظر في كتب الفُرس ويخالط اليهود والنصارى، وسمع بذكر النبي صلى الله عليه وسلم وقُرب مبعثه، فقال: إن جاءنا نذير لنكونن أهدى من إحدى الأمم؛ فنزلت: ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا ﴾ [فاطر: 42]، لكنه خالف ما كان أقسم عليه، فكان يقول: إنما يأتيكم محمد بأساطير الأولين، أسره المقداد في غزوة بدر، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرب عنقه، فضرَب عنقَه عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

 

الأسود بن عبديغوث من بني زهرة، وهو ابن خال النبي صلى الله عليه وسلم، كان من المستهزئين، وكان إذا رأى فقراء المسلمين قال لأصحابه: هؤلاء ملوك الأرض الذين يرثون ملك كسرى، وكان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أما كلمت اليوم من السماء يا محمد؟! فخرج يومًا من أهله فأصابه السموم، فاسودَّ وجهه، فلما عاد إليهم لم يعرفوه وأغلقوا الباب دونه، فرجع متحيرًا حتى مات عطشًا، وقيل: إن جبريل أومأ إلى السماء فأصابته الأكلة فامتلأ قيحًا فمات.

 

الحارث بن قيس بن عدي السهمي كان أحد المستهزئين الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن الغيطلة – اسم أمه – وكان يأخذ حجرًا يعبده، فإذا رأى أحسن منه ترك الأول وعبد الثاني، وكان يقول: قد غر محمدٌ أصحابَه ووعدهم أن يحيَوا بعد الموت، والله ما يهلكنا إلا الدهر، وفيه نزلت: ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ﴾ [الفرقان: 43]، وقيل في موته: أنه أكل حوتًا مملوحًا فلم يزل يشرب الماء حتى مات، وروي: أخذته الذبحة، وقل: امتلأ رأسه قيحًا فمات.

 

أمية بن خلف كان من رؤوس الكفر، يؤذي المسلمين، وله في إيذاء بلال أيام مشهودة من التعذيب والتنكيل، رُوي أن عقبة بن أبي معيط صنع طعامًا ودعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي: لا أحضر حتى تشهد أن لا إله إلا الله، ففعل، فقام معه، فقال له أمية: أقلت كذا وكذا؟ قال: إنما قلته لطعمنا – ويعني الاستهزاء – فنزلت: ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ﴾ [الفرقان: 27، 28]، شارك أمية بن خلف مع قومه في غزوة بدر، وكان أحدَ رؤوس الكفر الذين قتلوا فيها، قتله بلال وخُبيب.

 

أُبَيُّ بن خلف أخو أمية، وهو أكثر عنفًا وحنقًا على الإسلام والمسلمين، وكان شديد الإيذاء لمن أسلم، أتى يومًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عَظْم فخِذ، ففتّه في يده وقال: زعمت أن ربك يحيي هذا العظم؟ قال: ((نعم))، فنزلت: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [يس: 78، 79]، بلغت به الجرأة في غزوة أُحدٍ أن هاجَمَ النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: لا نجوتُ إن نجا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ابتعدوا، وأخذ حربة فطعنه بها في ترقوته، فكانت كالنار تحرقه، وحمله قومه فمات في الطريق.

 

العاص بن وائل السهميهو والد عمرو بن العاص، كان ممن يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من المستهزئين بالإسلام، وهو القائل عندما مات القاسم ابن النبي صلى الله عليه وسلم: إن محمدًا أبتر لا يعيش له ولد ذكَر، فأنزل الله سورة الكوثر وقال فيه: ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ [الكوثر: 3]، ركب حمارًا فلما صار في شِعب من شعاب مكة ربض به الحمار فلدغ في رجله فانتفخت حتى صارت كعنق البعير، فمات منها بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وعمره خمس وثمانون سنة.

 

أبو جهل بن هشام المخزومي اسمه عمرو، وكان من أشد كفار قريش حقدًا وعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم ولدعوته، وله مواقف في الأذى كثيرة، كان يؤذي النبي والمسلمين ويحرض أهل مكة على استئصال المسلمين، وقد كناه النبي صلى الله عليه وسلم بأبي جهل، فنُسي اسمه وعرف بها، شجع قومه على حرب المسلمين في بدر وقادها ضد المسلمين، لكنه كان أحد قتلاها، قتله ابنا عفراء، وأجهز عليه عبدالله بن مسعود، كان طاغية جبارًا.

 

عقبة بن أبي معيط يكنى أبا الوليد، وكان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم، كان يرمي الأقذار في طريق النبي صلى الله عليه وسلم وعلى باب داره، ورمى فوق رأسه وهو يصلي مرَّةً سلا شاة، فأسرعت فاطمة فأزالتها، وعمد مرة إلى مكتل وضع فيه عذرة وجعله على باب النبي صلى الله عليه وسلم، فبصر به طليب بن عمير وهو ابن عمة النبي، فأخذ المكتل منه وضرب به رأسه وشد أذنيه، فشكاه عقبة إلى أمه وقال لها: قد صار ابنك ينصر محمدًا، فقالت: ومَن أولى به منا؟! أموالنا وأنفسنا دون محمد.

 

أُسِر عقبة بن أبي معيط في غزوة بدر، فأعطاه النبيُّ عاصم بن ثابت الأنصاري ليقتله، فقال: مَن للصبية يا محمد؟ قال: ((النار))، ضرب عنقَه عاصمٌ في وادي الصفراء، وصلب، وهو أول مصلوب صلبه المسلمون لقاء جرائمه.

 

الأسود بن المطلب بن أسد، كنيته: أبو زمعة، كان من المستهزئين، وكان إذا مر النبي صلى الله عليه وسلم بالقوم يتغامز بالنبي مع أصحابه، ويقولون استهزاء: قد جاءكم ملوك الأرض ومن يغلِب على كنوز كسرى وقيصر، ويصفرون به ويصفقون، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعمى ويثكل ولده، فجلس في ظل شجرة فضرب الله بورقها وشوكها عينيه حتى عمي، فشغل بما أصابه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل ابنه في بدر، كما قتل اثنان من أحفاده، مات بعد غزوة بدر.

 

هؤلاء مجموعة من الطغاة الذين عاندوا الدعوة وجدوا في الأذى، عاقبهم الله وأزالهم من طريق الدعوة، وفي الآخرة عقابهم أشد وأنكى.

 

ولما صدَع النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأمر الله وبادأ قومه بالإسلام، فلم يبعدوا منه ولم يردوا عليه إلا بعض الرد، فلما ذكر آلهتهم وعابها أجمعوا على خلافه، إلا من عصمهم الله بالإسلام، وهم قليل مستخفُون، غير أن عمه أبا طالب وقف إلى جانبه بقوة، وصد عنه عادية قريش، فلم تصل إليه بأذى يحبطه أو يوقف دعوته، وجاءه الأمر أيضًا بإنذار عشيرته الأقربين: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [الشعراء: 214 – 216]، وهم بنو هاشم وبنو المطلب؛ فقد أخرج البخاري عن ابن عباس أنه قال: “لما نزلت: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214] وقَف النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي: ((يا بني فهر، يا بني عدي))، لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: ((أرأيتَكم لو أخبرتُكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟!))، قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: ((فإني نذير لكم بين يدَيْ عذاب شديد))، فقال: أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم؛ ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ *مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾ [المسد: 1 – 5]، وفي رواية مسلم عن أبي هريرة، قال: “لما نزلت هذه السورة: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214] دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قريشًا، فاجتمعوا، فعمَّ وخصَّ، فقال: ((يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم مِن النار، يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبدشمس، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبدمناف، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبدالمطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمةُ، أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملِك لكم من الله شيئًا، غيرَ أن لكم رحِمًا سأبُلُّها ببِلالِها))”.

 

ومِن هذا الاجتماع تكون الدعوة قد خرجت إلى حيز العلن، وبدأ الصراع الفعلي مع المعارضين من قريش، وهم القوة الكبيرة الطاغية؛ لذلك بدؤوا خطة لا رحمة فيها ولا مهادنة، وهي تنطوي على الوحشية والقسوة والتنكيل بكل وسيلة رادعة، وبقلوب لا تشفق ولا ترحم، وكان يتزعم هؤلاء القساة أبو جهل وأمية بن خلف وابن أبي معيط وشيبة وعتبة ابنا ربيعة، وآخرون غيرهم، يغذِّيهم الحقد والمصالح والحفاظ على الزعامة خوف الانتقال إلى غيرهم، لكن الغريب في الأمر أن يقف مع هؤلاء الطغاة أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم، بينما أخذ أبو طالب الجانب الآخر، وهو الوقوف مع محمد صلى الله عليه وسلم مهما كلف الأمر من تحمل ومشقة وصراع مع الطغاة، وكان لأبي طالب نصيب من الهيبة والاحترام عند قومه، خصوصًا وأنه على دينهم ومعتقدهم، ولو أسلم لفقد هذه الميزة، ولكان الاعتداء عليه من السهولة بمكان، فما هو إلا فرد – مهما بلغ من القوة – ضعيف أمام الكثرة الطاغية من قريش، لكن بثباته على معتقده معهم ظل يتمتع بالحصانة والاحترام؛ لذلك وسَّطوه في أكثر من مرة ليكلم ابن أخيه؛ كي يغير موقفه ويقلع عن دعوته، تارة بالتهديد وتارة بالإغراء الدنيوي، قال ابن إسحاق: فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء – لا يرضيهم – أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وأبو البختري العاص بن هشام، والأسود بن المطلب، وأبو جهل الحكم بن هشام، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفَّه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه، فقال لهم أبو طالب قولًا رقيقًا وردهم ردًّا جميلًا، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يظهر دين الله ويدعو إليه، ثم شرى – استفحل – الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها، وتذامروا فيه – أغرى بعضهم بعضًا في إيذائه – وحض بعضهم بعضًا عليه.

 

كانت هذه هي المرة الأولى التي يكلمون فيها أبا طالب ثم يقنعهم بالرد الجميل، ولعل أبا طالب كان يتمتع بدبلوماسية فائقة حين أطفأ ثورة هؤلاء العتاة وأوقف هيجانهم إلى حين، لكن كان لا بد من الاستمرار في الدعوة؛ إنها أمر من الله محتم على نبيه، وينبغي أن تؤدى الرسالة كما هي: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: 67]، فإذا أرضَتْهم دبلوماسية أبي طالب لأجل محدود، فإن الصدع بأمر الله تكليف لا محيد عنه، وفيه الدعوة إلى التوحيد، وبالتالي ذم الأصنام وعبَّادها أمر محتم سيصطدم لا محالة مع المشركين المقدسين لها؛ ولهذا أتاه القوم مرة أخرى وهم غِضَاب منزعجون من الحط بقيمة آلهتهم، وقد رفعوا وتيرة الاحتجاج إلى حد التهديد بالعدوان وإظهار الشر، فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنًّا وشرفًا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى نكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلِك أحد الفريقين، ثم انصرفوا عنه، فعظُم ذلك على أبي طالب ووقع بين أمرين أحلاهما مر، فهو محب لقومه ولا يريد معاداتهم، ومحب لابن أخيه ويحب نصرته والوقوف إلى جانبه في تبليغ دعوته، وكان يتمنى ألا يكون صدامٌ بين الطرفين، وتكون هناك حرية للدعوة يدخل فيها من يرغب ويبقى من أراد على دينه الوثني، ولكن قريشًا أرادت أن تفرض ديكتاتوريتها وتمنع أي صوت إلا صوتها، فهي وريثة التراث الجاهلي ولن تفرط فيه، وستمنع كل من يحاول تغيير هذا الواقع.

 

وانطلق أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد حمل معه غضبة قريش وما ألمحت إليه من الشر؛ لعله يجد في الأمر حلًّا وسطًا يرضي الطرفين، ولكن هيهات أن ينزل الحق إلى ترهات الباطل؛ فالخطان متقاطعان، شرك ظاهر وضلال أعمى، وتوحيد يأبى الشرك أو أي شكل من أشكاله، نور وضَّاء يريد أن يمحو ظلمة الجهل والاعتقاد؛ فينير أرجاء مكة والعالم أجمع، فيَئِد الظلام وحلكته إلى أبد الآبدين، فلا يمكن أن يكون بين هذين المنهجين أدنى نقاط للقاء؛ لذلك لما عرض أبو طالب مطالب قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ظن النبي أن أبا طالب سيتخلى عنه أمام ضغط قريش، فوقف يخبره بحقيقة الدعوة بأنها لا تقبل المساومة ولا التخلي عن المبادئ الأساسية فقال لعمه: ((والله يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلِك دونه))، ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذرفت عيناه، وغادر المكان، فقال له أبو طالب: أقبل يا بن أخي، فأقبل عليه، فقال: اذهب يا بن أخي فقل ما أحببتَ؛ فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا، ورُوي أن كبار قريش – منهم أبو جهل والعاص بن وائل والأسود بن عبدالمطلب – استأذنوا على أبي طالب ليكلموه في شأن محمد صلى الله عليه وسلم، فأذن لهم، فقالوا: يا أبا طالب، أنت كبيرنا وسيدنا، فأنصفنا من ابن أخيك، فمره فليكف عن شتم آلهتنا، وندعه وإلهه، فبعث إليه أبو طالب، فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو طالب: يا بن أخي، هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم، وقد سألوك النَّصَف، أن تكف عن شتم آلهتهم، ويدعوك وآلهتك، قال: ((أي عمِّ، أولَا أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها؟))، قال: وإلام تدعوهم؟ قال: ((أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب، ويملِكون بها العجم))، فقال أبو جهل: ما هي وأبيك؟ لنعطينكها وعشرًا أمثالها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قولوا: لا إله إلا الله))، فنفر القوم، وقالوا: سلنا غير هذه، فقال: ((لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها))، فغضبوا وقاموا من عنده، وقالوا: والله لنشتمنَّك وإلهك الذي يأمرك بهذا، فسجل القُرْآن قولهم: ﴿ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ * أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ﴾ [ص: 6 – 8]؛ فهذه الآياتُ تُبيِّن أن تمسكهم بالأصنام لم يكن بدافع الحب الخالص لها كما يزعمون – فهم أهل مصالح – وإنما لما ملئت قلوبهم من الحسد أيضًا؛ لأن الرسالة لم تكن فيهم، وإنما كانت من نصيب محمد صلى الله عليه وسلم اليتيم الفقير.

 

وجاءت محاولة أخرى من عتبة بن ربيعة ليوقف الدعوة بطريقته الخاصة؛ فقد كان في نادٍ لقريش، فقال لهم: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا؛ لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟، وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلِّمْه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله، فقال: يا بن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة – الشرف – في العشيرة والمكان والنسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرَّقْتَ به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعِبْت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها؛ لعلك تقبل منها بعضها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قل يا أبا الوليد أسمع))، قال: يا بن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت إنما تريد به شرفًا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به مُلْكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك به؛ فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال: ((أقد فرغت يا أبا الوليد؟))، قال: نعم، قال: ((فاستمع مني))، قال: أفعل، فقال: (( بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ [فصلت: 1 – 8]، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليها يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجد، قال: ((قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك))، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلِف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولًا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه؛ فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكُه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي، فافعلوا ما بدا لكم.

 

ولقد علمَتْ قريش بعد هذا أن أبا طالب مانع ابن أخيه ولن يتخلى عنه، وأنه سيستمر في الدعوة؛ لذلك كانت لهم مع أبي طالب محاولة ثالثة، وكانت من نوع آخر، أنتجها عقلهم الجاهلي القاصر – وعقل الكافرين دومًا في تباب – أتوا إلى أبي طالب ومعهم الفتى عمارة بن الوليد، فقالوا له: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه، فلك عقلُه – أي: لو قتله أحد فدِيَتُه لك لا لأبيه – ونصره، واتخذه ولدًا، فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك، وسفَّه أحلامهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل، قال أبو طالب – مسفهًا عقلهم وضعف تفكيرهم -: والله لبئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم أغذيه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟! هذا والله ما لا يكون أبدًا، قال: فقال المطعم بن عدي: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئًا، فرد عليه أبو طالب: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي، فاصنعوا ما بدا لكم.

 

لقد فقدت قريش كل منطق، وإن كل ما يهمها هو التخلص من النبي صلى الله عليه وسلم بأية وسيلة مهما كانت؛ خلقية أو غير خلقية، منطقية أو غير منطقية، فيها مؤاخذة لهم من القبائل الأخرى بأنهم خالفوا الأعراف أو موافقة، كل هذا لا يهم، منطقهم – على اعوجاجه – هو القانون، وهو الحل الأمثل، وهو الذي ينبغي أن يسود.