منوعات

أسباب الخلافات الزوجية والأسرية (7)

أسباب الخلافات الزوجية والأسرية (7)

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أما بعد:

أيها الأحبة الأكارم، إن شاء الله نكمل الحديث عن أسباب الخلافات الزوجية والأسرية؛ ومنها:

النشوز بين الزوجين:

النشوز بين الزوجين هو: كراهة كل واحد منهما صاحبه، وسوء عشرته له[1].

 

والنشوز كبيرة من الكبائر؛ قال ابن حجر الهيتمي: “عد ‌النشوز ‌كبيرة هو ما صرح به جمع”؛ أي: من الفقهاء[2].

 

وعن أقسام ‌النشوز ‌بين ‌الزوجين، قال الماوردي: “لا يخلو حال ‌النشوز ‌بين ‌الزوجين من أربعة أقسام[3]:

الأول: أن يكون النشوز من الزوج على الزوجة.

 

الثاني: أن يكون النشوز من الزوجة على الزوج.

 

الثالث: أن يشكل حال الزوجين فيه فلا يعلم أيهما هو الناشز على صاحبه.

 

الرابع: أن يكون النشوز من كل واحد من الزوجين على الآخر.

 

وأتناول ‌بشيء ‌من ‌التفصيل الكلام عن الأقسام الأربعة، وذلك ‌على ‌النحو الآتي:

القسم الأول: نشوز الزوج[4]:

الزوج ‌إذا ‌نشز ‌عن زوجته، أو أعرض عنها، وكان النشوز لعلة شرعية مقبولة، فلا بد من محاولة الصلح بينهما من خلال أهل الحكمة والأمانة، ويجوز أن يبقي عليها مقابل تنازلها عن بعض حقوقها، ورضاها بذلك الصلح؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾ [النساء: 128].

 

وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: في هذه الآية: ﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا ﴾ [النساء: 128]، قالت: “الرجل تكون عنده المرأة، ليس بمستكثر منها، يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حلٍّ، فنزلت هذه الآية في ذلك”[5].

 

قال ‌مالك: “المرء ‌إذا ‌نشز عن امرأته أو أعرض عنها فإن عليه من الحق أن يعرض عليها أن يطلقها، أو تستقر عنده على ما رأت من الأثرة في القسم من نفسه وماله، فإن استقرت عنده على ذلك وكرهت أن يطلقها فلا جناح عليه فيما آثر عليها به من ذلك”[6].

 

وقال ابن قدامة: “إذا خافت المرأة نشوز زوجها وإعراضه عنها، لرغبته عنها، إما لمرض بها، أو كبر، أو دمامة، فلا بأس أن تضع عنه بعض حقوقها تسترضيه بذلك… ‌ومتى ‌صالحته ‌على ‌ترك ‌شيء من قسمها أو نفقتها، أو على ذلك كله، جاز، فإن رجعت، فلها ذلك”[7].

 

القسم الثاني: نشوز الزوجة[8]:

الحياة الزوجية قد تصفو تارة، وتسوء تارة أخرى، ومن مظاهر السوء، نشوز الزوجة على زوجها، وعن أساليب الشريعة في التعامل مع الزوجة الناشز؛ قال الله تعالى: ﴿ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾ [النساء: 34].

 

قال ابن الجوزي: “ينبغي للزوجة العاقلة إذا وجدت زوجًا صالحًا يلائمها أن تجتهد في مرضاته، وتجتنب كل ما يؤذيه، فإنها متى آذته، أو تعرضت لما يكرهه أوجب ذلك ملالته، وبقي ذلك في نفسه، فربما وجد فرصته فتركها أو آثر غيرها”[9].

دلالات النشوز:

إذا ظهر من المرأة أمارات النشوز، بقول أو فعل، وعظها.

 

فأمارته بالقول: هو أن يكون من عادته إذا دعاها أجابته بالتلبية، وإذا خاطبها أجابت خطابه بكلام جميل حسن، ثم صارت بعد ذلك إذا دعاها لا تجيب بالتلبية، وإذا خاطبها أو كلمها لا تجيبه بكلام جميل.

 

وأمارته بالفعل: هو أن يكون من عادته إذا دعاها إلى الفراش أجابته باشَّة طلقة الوجه، ثم صارت بعد ذلك تأتيه مُكرَهة، أو كان من عادتها إذا دخل إليها قامت له وخدمته، ثم صارت لا تقوم له ولا تخدمه؛ فإذا ظهر له ذلك منها، فإنه يعظها، ولا يهجرها ولا يضربها، وهذا قول عامة أصحابنا[10].

صفة التعامل مع الزوجة الناشز ومراحله:

قال الرافعي: “في نشوز المرأة وتعديها ثلاثة أمور: الوعظ والهجران، والضرب، والمراد من الوعظ أن يخوفها بالله تعالى فقد تتأدب بذلك، والهجران المعتبر هو الهجران في المضجع، وله أثر ظاهر في تأدب النساء، ولو هجرها بالكلام لم يزد على ثلاثة أيام، فإن فعل أثم، وأما الضرب فهو ضرب تأديب وتعزير، وينبغي ألَّا يكون مبرحًا ولا مدميًا، وألا يقع على الوجه”[11].

 

القسم الثالث: أن يشكل حال الزوجين فيه فلا يعلم أيهما هو الناشز على صاحبه:

قال الشافعي: “أن يشتبه حالهما في الشقاق فلا يفعل الرجل الصفح ولا الفرقة، ولا المرأة تأدية الحق ولا الفدية، أو تكون الفدية لا تجوز من قبل مجاوزة الرجل ماله من أدب المرأة وتباين حالهما في الشقاق، والتباين هو ما يصيران فيه من ‌القول ‌والفعل ‌إلى ‌ما ‌لا ‌يحل ‌لهما ولا يحسن، ويمتنعان كل واحد منهما من الرجعة، ويتماديان فيما ليس لهما، ولا يعطيان حقًّا، ولا يتطوعان، ولا واحد منهما بأمر يصيران به في معنى الأزواج غيرهما، فإذا كان هذا بعث حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، ولا يبعث الحكمان إلا مأمونين، وبرضا الزوجين، ويوكلهما الزوجان بأن يجمعا أو يفرقا، إذا رأيا ذلك”[12].

 

قال ‌أبو ‌المطرف ‌القنازعي: “قال عيسى ‌بن ‌دينار ‌بن ‌واقد: لو أن رجلًا وامرأته اشتكيا إلى السلطان، وكل واحد منهما يدعي أن صاحبه مضر به فلم يتبين للسلطان مَن ‌الناشز ‌منهما، والناشز منهما هو المبغض المسيء الصحبة لصاحبه، فإذا جهل ذلك من أمورهما وجب على السلطان أن يبعث رجلًا صالحًا من أهل الزوجة، وآخر من أهل الزوج، فيحكمهما بين ذلك الرجل وامرأته، ويفوض إليهما أمرهما، فما رأيا من فرقة بينهما أو اجتماع أنفذاه بينهما”[13].

 

القسم الرابع: أن يكون النشوز من كل واحد من الزوجين على الآخر:

وإن كان النشوز من الطرفين وساء ‌الحال ‌بينهما، واستحال ‌الوئام، واستنفدت جميع الحلول؛ فعلاج هذا القسم قول الله تعالى: ﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ [البقرة: 229].

 

قال الكمال ابن الهمام: “… وأما سببه (الطلاق) فالحاجة إلى الخلاص عند تباين الأخلاق، وعروض ‌البغضاء ‌الموجبة عدم إقامة حدود الله تعالى، وشرعه؛ رحمة منه سبحانه وتعالى”[14].

 

بعض الفوائد المستفادة:

للزوج دور مؤثر داخل الأسرة، ونشوزه أخطر من نشوز الزوجة فقد يعميه الغضب بفقد قوامته، فيحدث ما لا تحمد عاقبته.

 

يُندب للزوج حال نشوزه استحبابًا ألا يهجر مباشرتها ولا يظهر كراهيتها ولا يسيء عشرتها.

 

رتبت ‌الشريعة المطهرة الأحكام على مجرد خوف الزوجة من نشوز زوجها قبل ‌حدوثه ‌بالفعل، وهذه لفتة على معالجة ‌أسبابها ‌قبل حلولها؛ لأنها إن وقعت ربما استعصى عليه تداركها.

 

القسم من حق المرأة، ولها إسقاطه، وأن تراضى الضَّرائر بالتفاضل بينهن جائز عليهن، ومباح للزوج لا حرج عليه ‌فيه، ولا يدخل في النهى لأنه حقها وهبته.

 

يجوز للزوجة ذات الضرائر بذل حقها لغيرها بعوض وغير عوض، إذا رضي بذلك الزوج.

 

الفرق ‌بين ‌النشوز ‌والإعراض: أن النشوز التباعد، والإعراض ألَّا يكلمها ولا يأنس بها.

 

صح عن علي بن أبي طالب أنه قال: “للحكمين بين الزوجين: عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما”، وقال آخرون: ‌ليس ‌للحكمين ‌أن ‌يفرقا إلا برضا الزوجين؛ لأنهما وكيلان لهما.

 

الصلح ‌خير ‌في ‌كل ‌شيء ‌من ‌التمادي على الخلاف والشحناء والبغضاء التي هي قواعد الشر، والصلح وإن كان فيه صبر مؤلم فعاقبته جميلة.

 

‌وفى ‌الختام، أسأل الله العلي القدير ‌أن يجعل ‌أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن ‌ينفع بهذه السطور في الدنيا والآخرة، والحمد لله رب العالمين.

 


[1] صحيح البخاري (9/ 117).

[2] الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/ 80).

[3] الحاوي الكبير (9/ 595).

[4] ‌ النشوز من الزوج: أن يتجافى عنها بأن يمنعها نفسه، ونفقته، والمودة والرحمة التي بين الرجل والمرأة، وأن يؤذيها بِسَبٍّ أو ضرب؛ [ينظر: تفسير الزمخشري (1/ 571)].

[5] صحيح البخاري (3/ 130) رقم (2450).

[6] المدونة (2/ 241).

[7] المغني لابن قدامة (10/ 262/263).

[8] يقال: نشزت المرأة على زوجها فهي ناشز وناشزة: إذا عصت عليه، وخرجت عن طاعته؛ [ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 56)].

[9] أحكام النساء لابن الجوزي (ص: 145).

[10] البيان في مذهب الإمام الشافعي (9/ 528)

[11] الشرح الكبير (8/ 387) بتصرف.

[12] الأم للشافعي (5/ 124).

[13] تفسير الموطأ للقنازعي (1/ 387).

[14] فتح القدير للكمال ابن الهمام (3/ 463).