منوعات

هي تأمل أن تعود (قصة قصيرة)

هي تأمل أن أعود

كان الضباب يملأ الآفاق، والسكون يعم الصدور والأجواء، نتقارب ليرى كل منا أخاه، ويبث الأمل في صدره، أو يذكره بربه وبيننا من يكتب وصيته أو يبوح لأخيه بسره أو يردد ورده، حتى انكشف الضباب، وبدأ الأفق يكشر عن أنيابه، ونحن بين الأشجار الكثيفة وتحت سماء لا تعرف النجوم، بل القذائف والطيارات، فلم يكن رعد سمائنا متقطعًا بل كان دويًّا متصلًا تفزع منه القلوب قبل الأبدان، ولم تكن الديم فيها إلا سجادة من القذائق.. وفي هذا الجو الملتهب أشرق عليَّ وجه كريم بروح متقدة، خلته يطل علي من بين الأقمار لا من كتيبة المقاتلين، كان وجهه يتدفق جمالًا وحيوية ويتحدث إليَّ بشغف شديد، وكأنما حان وقت لقائه بحبيبة أضناه الشوق إليها، اقترب مني على استحياء فوجدتني أبتسم ابتسامة فرح وأنا أرقب الشباب المتدفق في خطوته والبهاء المشع من وجهه الصبوح وشعره المنسدل على كتفيه..، اتسعت ابتسامتي عندما بدأ حديثه معي بخجل أبيّ! قائلا:

أريد أن أسألك يا شيخنا عن أمر يجول بخاطري … وكأنه يريد أن يخلو بي، نحونا تجاه شجرة عملاقة وأبديت رغبتي في الاستماع إليه إلا أن هدير الطائرة المحلقة فوقنا كان أقوى من أن يهمس كلانا للآخر، وقبل أن نتبادل النظرات عاجلنا صوت عال (انبطحوا – انبطحوا) فالطيران فوقنا ولا يترك ظلا يتحرك إلا ومزقه بحمم نيرانه، فميعاد المعركة قد أزف…

 

ما خفت من الموت إلا في هذه اللحظة؛ لرغبتي في الاستماع لهذا الشاب جميل المحيا صادق القلب… والحمد لله مرت الغارة على خير واعتدلت جلستنا فأذهبت عنه الحرج وبادرته، فيم تريدني أيها الطيب الجسور!

 

قال: اسمي عبد الكريم وينادونني (كريم) أريد أن أسألك يا شيخنا: ماذا عليَّ إذا عصيت كلام أمي؟

 

وباستغراب شديد أجبته: لمَ؟

 

قال: أنا عاهدت الله إن مكنني من لقاء العدو ألا أفرّ حتى أُقتل شهيدًا أو ننتصر وهي تأمل أن أعود!

 

لم أجبه سريعًا وبقيت أردد في قلبي اللهم لك الحمد على اتصال آخر هذه الأمة بأولها وكأنني بالبراء بن مالك يبحث عن الشهادة قبل النصر، وكأنني بأبي بكر يقول عنه: (احرص على الموت توهب لك الحياة …) حاولت أن أتماسك حتى لا يفر دمعي مما جاش في صدري من اعزاز لعبد الكريم وفخر بهذا الدين، ولم أستطع أن أجيبه بكلمات بل احتضنته وقبلت رأسه، ودعوت له بالخير وانصرف… ولكن قلبي قبل حديثه إليّ ليس هو الآن، وكأن الله أرسله يسألني ليزيدني أنا يقينا بالنصر ويطرد عني كل ظن ظننته بأننا مهزومون، ثم نظرت للطائرة العملاقة التي تهدر فوق رؤوسنا والتي تبحث عن كل حركة لتقصفها.. وقلت في نفسي: ماذا تصنع كُتَلُ الحديدٍ الصماء أمام هذه القلوب الصادقة، ماذا تصنع أحقادهم مع عزم البراء ويقين أبي بكر!

 

وما هي إلا لحظات إلا ودقّت ساعة الصفر وأعلن القادة بدء المعركة وتقدم الفرسان ومرّت ساعات النزال عصيبة… فعدونا لن يسلّم هذه القاعدة العسكرية مهما كلّفه الثمن… وعبد الكريم وأصدقاؤه باعوا للرحمن لن يتخلوا عن مرادهم، فقد باعوا للرحمن أرواحهم، واشتروا جنة عرضها السماوات والأرض! فهل يفرط عاقل في سلعة الله الغالية!

 

وبعد وقت طويل على المهزوم قصير على المنصور جاءت البشرى، وملأت التكبيرات الأرجاء، وتبدد ضباب القلوب كما تبددت طائرات العدو، ودبت الحياة في الأرض التي ارتوت بالدماء… وهرب أمام الصادقين الأعداء… وانشغل الفرسان؛ هذا يناجي ربه رافعًا يده، وذلك يسجد فرحًا، وثالث يناجي أمه كأنها أمامه، ورابع يهمس لمحبوبته، وشيخ بينهم يوزع حلوى النصر، وقائد ينبه لجمع الغنائم… والأروع سماء تحفها الملائكة وجنود لم نرها كانت تؤيدنا، وربنا فوق العرش يرقبنا، وكأننا نرى الملائكة تملأ السماء تسجل حمد الحامدين وتحمل رجاء الخافين وتضمد جرح النازفين… وتصعد بالأرواح الطاهرة التي اختارها ربها وتربت على قلوب مشفقة لم تكن ممن قضى نحبه ولكنها ممن ينتظر! ياألله ما أجمل النصر وما أعظم العطاء من يد الكريم جلّ في علاه.

 

وإذا بعبد الكريم يمر بخاطري فوجدتني أنادي – لا إراديا -: كريم.. كريم … فلم أجد ردًّا، ركضت لأبحث عنه بين الشباب دون جدوى، قفزت لأتفحص الشهداء… ومن درب لدرب وإذا بوجهه الباسم وجسده الطري النحيل ملقى تحت شجرة عملاقة والثياب ممزقة.. والشعر مفرّق … والسبابة مرفوعة… والدم لم يزل ينزف لكنّ النَفَسَ قد انقطع …!

 

كان هذا عبد الكريم خامل الذكر في دنيا الناس تهتف الملائكة باسمه في السماء حل ضيفًا على الكريم الواسع الوهاب سبحانه!

 

رحل عبد الكريم وبقي دمه نورًا يضيء عتمة أيامنا، كم من كريم بيننا لم تسمح له الفرصة أن يبيع نفسه لله بجنة عرضها السماوات والأرض …

 

أبناء الإسلام أنتم خلفاء الله، مكرمون طهر الله قلوبكم من رجس الشرك وملأه باسمه الأعظم، فلا تنهزموا، ولا يغرنكم حبالهم التي ألقوها في طرقكم لطمس عقيدتكم فعصا موسى ستلقف ما يأفكون، أبى الله إلا أن يشغلهم بنا فينفقون عمرًا ومالًا ثم يذهب عليهم حسرات، لأن الرجس في قلوبهم واليقين في قلوبنا، هم فرعون ونحن السحرة المؤمنون الذين خروا ساجدين عند الامتحان ولم يعبأوا بأن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، فنور التوحيد وجلال العظمة يملأ قلوبهم وما ضرهم من كفر إذ آمنوا …

 

كتبت القصة من وحي حديث سمعته لأحد الدعاة الذين شهدوا الحرب!