منوعات

طفولة قاسية… كيف أتخلص من آثارها؟

السؤال:

الملخص:

فتاة عاشت طفولة قاسية من الظلم والتنمر من قِبل أخواتها الثلاث؛ ما جعلها بلا شخصية وبلا كرامة، وهي إلى الآن لا تستطيع التخلص من آثار تلك الطفولة البائسة، وتدعو على أخواتها وأطفالهن، وتسأل: كيف تتجاوز ذلك؟

 

تفاصيل السؤال:

السلام عليكم.

أنا فتاة في سن الشباب، ولكني أسيرة طفولتي المؤلمة، أتذكرها بين الفينة والأخرى، وأحقد على من ظلموني، أنا الصغرى في عائلة كبيرة، فرق السن بيني وبين أخواتي كبير؛ فأقلُّ فرق بيني وبين أصغرهن عشر سنوات، بسبب طفولتي البائسة أرى أخواتي عدوَّاتٍ لي، في طفولتي أمي كانت دائمًا مشغولة مع أخواتي، وكنت أُربَّى مع خادمة حبشية لا تعرف العربية جيدًا، وأخواتي كانت الغيرة والحقد يتملكهن لأنني كنت في الماضي محببة عند أبي وأعمامي؛ بحكم أنني الصغرى، أبي كان خارج المنزل غالبًا، وكنَّ يستغللن ذلك فيتنمَّرنَ عليَّ، ويعنِّفْنني لفظيًّا وجسديًّا؛ فكنت أُضرب لأتفه الأسباب إذا أنا لم أُطعْ أوامرهن، وإذا ناقشتهن فليس لي إلا الضرب، وإذا ما تكلمت عند أي أحدٍ، فإذا عدنا للبيت يبدأ الاستهزاء على كلامي، فعشتُ وحيدة، ولما دخلت المدرسة رسبت أول سنة؛ لأنه لم يكن ثمة من يعلمني أي شيء حتى أساسيات النظافة الشخصية؛ فأبي وأمي كانا مهملَين، وكانا يتكلان على أخواتي، وهن قلوبهن ملآى بالحقد تجاهي، كنت أُطرد من غرفة التلفاز بلا سبب غير أن وجودي يضايقهن، وأجلس أتسمَّع من وراء الباب، وهذا أثَّر على شخصيتي في المدرسة؛ إذ كنت أتعرض للتنمر أيضًا ولا أستطيع أن أدفع عن نفسي شيئًا، بلا شخصية، كانت المعلمات يضربْنني وكنت لا أخبر أمي خشية أن تخبر أخواتي ويستهزئنَ بي، حتى إن أبي وأعمامي تغيروا عليَّ لأنني أصبحت مملة وخجولة، كنت أدعو الله وأبكي كل ليلة، لكن لا استجابة، لماذا يبتلي الله طفلة؟ أنا الآن في سن الشباب، لكني أشعر بغُصص الطفولة كأنها كانت أمس، وما زالت المشاكل بيني وبينهن قائمة، وإن كنت الآن أرد عليهن لكن ليس بالقوة التي أرجو فأنا حتى الآن أخشاهن، وفي كل يوم أدعو الله عز وجل أن يأخذ لي حقي منهن بسبب ظلمهن لي وتدميرهن لشخصيتي، فهل يجوز لي الدعاء على من ظلمني في طفولتي أو ترد الدعوة عليَّ؟ وهل يجوز قطع الرحم لكف الأذى؛ فقد قاطعت أقسى أخواتي عليَّ التي ما زالت قاسية إلى الآن، وتُخرب ما بيني وبين أمي؟ وسؤال آخر: أنا دائمًا أفضِّل أبناء أخي وأعطيهم الهدايا والحلويات؛ لأنه كان يعاملني معاملة حسنة وأنا طفلة، في حين أنني أتجاهل أبناء أخواتي؛ لأنني لا أريد الاحتكاك بهم وأحمل في قلبي الكره لهم، فهل هذا إثم؟ وإنني دائمًا أدعو الله أن يبتليهن الله في أطفالهن، فهل يجوز؟ كيف أجاوز طفولتي القاسية؟ أرجو توجيهكم وجزاكم الله خيرًا.

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:

فملخص شكواكِ حسب ما سطرتِهِ هو:

1- ظلم وقع عليكِ من أخواتكِ.

2- وإهمال من والديكِ.

3- ثم تسألين: هل يجوز لكِ الدعاء عليهم؟

 

فأقول مستعينًا بالله سبحانه:

أولًا: اعلمي أن كل ما حصل لكِ قدر كتبه الله عليكِ، ولعله خير عظيم لكِ؛ قال سبحانه: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]، وقال عز وجل: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216].

 

ثانيًا: إذا علمتِ بما سبق، فاحتسبي الأجر العظيم على ما أصابكِ عند الله سبحانه؛ ولذا فبدلًا من التحسر على الماضي أكْثِري مما هو خير لكِ؛ وهو الصبر والاسترجاع.

 

ثالثًا: بالنسبة لمن تقولين: إنهم ظلموكِ، إن دعوتِ عليهم، فذلك جائز لكِ، ولكن الأفضل منه والأطيب لكِ عند الله سبحانه هو العفو عنهم والدعاء لهم، ولكِ أسوة في نبيين كريمين؛ هما رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن عبدالله، ونبي الله يوسف عليه السلام، فقد عفوا عمن ظلموهما، مع قدرتهما على الانتقام منهم.

 

فرسول الله صلى الله عليه وسلم عفا عن أهل مكة بعد أن دخلها فاتحًا منتصرًا، مع أنهم آذَوه أذًى عظيمًا متعدد الأصناف؛ فقال لهم: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)).

 

وهذا نبي الله يوسف عليه السلام قال لإخوته بعد أن تمكَّن منهم وهو عزيز مصر: ﴿ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 92]، فجمع بين العفو عنهم والدعاء لهم.

 

رابعًا: تأملي كثيرًا في قصة عفو أبي بكر رضي الله عنه عن الصحابي الجليل البدري مِسطح بن أُثاثة ابن خالة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عندما خاض في عِرضِها، فعاقبه أبو بكر فقطع عنه النفقة؛ لأنه كان فقيرًا، وكان أبو بكر ينفق عليه، فأنزل الله سبحانه آياتٍ تأمر أبا بكر رضي الله عنه بإعادة النفقة لمسطح، بل وأعظم من ذلك يَعِدُه الله بالعفو عنه إذا عفا عن مسطح، فبكى أبو بكر رضي الله عنه، وقال: ((بلى، أُحب أن يغفر الله لي، والله لأُعيدنَّ النفقة إلى مسطح))؛ تأملي ذلك كله في قوله عز وجل: ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22]، أفلا تحبين أنتِ أن يغفر الله لكِ؟!

 

خامسًا: أما صلتكِ لأبناء أخيكِ بالهدايا وعدم صلتكِ لأبناء أخواتكِ، فهو كله غير واجب عليكِ، لكن كيف يُحمَّل الأطفال جريرة والديهم؟ فالأفضل لكِ العدل مع الجميع.

 

سادسًا: عليكِ بتقوية إيمانكِ بالعلم النافع، وبالإكثار من العبادات خاصة الصلاة وتلاوة القرآن والذكر والصدقات، فهي التي تُطيب قلبكِ، وتُعينكِ على الصبر وعلى نسيان الأذى السابق، وتُطَهِّر قلبكِ من الحقد ومن حب الانتقام، وتعينكِ بإذن الله على سلامة الصدر والعفو.

 

سابعًا: التمسي العذر لأخواتكِ؛ لعلهن لَحَظْنَ شيئًا من الحب الزائد لكِ من والديكِ، أو من أقاربكِ؛ فتحركت فيهم الغَيرة البشرية؛ فهؤلاء إخوة يوسف عليه السلام همُّوا بقتله لِما رأوا من شدة الحب له من والده نبي الله يعقوب عليه السلام.

 

حفظكِ الله، ورزقكِ قلبًا سليمًا وإيمانًا صادقًا.

 

وصلِّ اللهم على نبينا محمد ومن والاه.