جاء في “الراي” الكويتية:
… طرقُ الحوار مقطوعةٌ بـ «جولات الغضب» على جبهة أطراف السلطة كما بينهم وبين خصومهم. وقطْعُ أوصال البلاد وطرقها الرئيسية في «خميس الغضب» لم يَحْمِلْ إلا استحضاراً سوريالياً لواقع تحويل الشارع مسرحاً لتصفية حسابات سياسية بين أركان الحُكْم الذين باتوا يتصارعون على كل شيء وأي شيء، فوق رمادِ واقع مالي – معيشي يشي بخروج «مارد» الفوضى… من القمقم.
مشهديةٌ قاتمةٌ ظلّلتْ الوضع اللبناني أمس الذي بدا عيْناً على حركةٍ في الشارع طغى على ضوضائها، هديرُ أسئلة من نوع «غضب على مين»؟ و«غضب مين على مين؟ السلطة ضدّ السلطة»؟، وعيْناً أخرى على «تجميل» رئيس الجمهورية ميشال عون إجهاض دعوته إلى طاولةٍ في القصر بإصرارٍ على المضيّ في «الدعوة المفتوحة» بعدما وُضع بين خياريْن أحلاهما مُر:
المضيّ بها مبتورة وتالياً منْح معارضيه فرصة تظهير هزالة الحوار وضمور حضور رئيس الجمهورية وتأثيره.
أو نعيها النهائي الذي يشكل إقراراً صريحاً بالانتكاسة، فاختار صيغةَ «ماضٍ في الدعوة للحوار من دون تردّد» مع «هجوم دفاعي» على «رافضي التشاور ورافضي الحوار»، و«معطلي الحوار والرافضين له»، لم يخْلُ من تصويب ضمني على رئيس البرلمان نبيه بري، شريك حليف عون أي «حزب الله» في الثنائية الشيعية، كما على كلّ من الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري ورئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط ورئيس «المردة» سليمان فرنجية الذين لم يتجاوبوا مع دعوته.
وعَكَس البيانُ الشديدُ اللهجةِ الذي أصدره عون عصر أمس، المناخات السياسية البالغة الاحتقان التي اعتُبرت «المانِع» الأساسي أصلاً أمام انعقاد الطاولة – اليوم وغداً وبعده – التي لم يكن ممكناً تَصَوُّر أن تُمنح «هدية» لرئيس الجمهورية وفريقه (التيار الوطني الحر) في الطريق إلى الانتخابات النيابية في 15 مايو المقبل والتي تنبئ بأنها ستخاض بمختلف أنواع «الأسلحة السياسية» وحتى «المحرّمة»، كما مع بدء العدّ التنازلي لانتهاء ولاية عون بعد نحو 9 أشهر والتي يتوعّد خصومه، على اختلاف منطلقاتهم، بألّا يُتاح له خلالها تعويض الخسائر التي مُني بها، وقسم كبير منها جناها على نفسه بفعل أداء فريقه وفق ما يعتبر هؤلاء، لأن «ما يُلعب» في هذا الإطار ليس نهاية عهد بل إنهاء حظوظ النائب جبران باسيل (صهر عون) في بلوغ القصر و«وراثة» الرئاسة.
ولم يكن عابراً إعلان عون أنه «على أثر المشاورات التي أجراها مع رئيسي مجلس النواب والحكومة ورؤساء الكتل النيابية في شأن الدعوة الى الحوار، تبيّن أن عدداً منهم تراوحت مواقفهم بين رفض التشاور ورفض الحوار بما يحمّلهم مسؤولية ما يترتب على استمرار التعطيل الشامل للسلطات، حكومةً وقضاءً ومجلساً نيابياً».
واذ «أمل أن يغلب الحسّ الوطني للمقاطعين على أي مصالح أخرى»، دعاهم «الى وقف المكابرة والنظر الى ما يعانيه الشعب اللبناني والموافقة في أقرب وقت على اجراء حوار صريح لنقرّر مستقبلنا بأيدينا استناداً الى ارادة وطنية وكي لا يفرض علينا مستقبلاً نقيض ما نتمنّاه لوطننا».
واعتبر في غمزٍ من قناة بري، الذي يتشارك مع «حزب الله» في احتجاز جلسات الحكومة بانتظار بت قضية المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار والذي لم يشارك في اللقاءات الثنائية التي عقدها عون (رغم أنه أبدى موافقته على حضور الحوار)، «ان استمرار تعطيل مجلس الوزراء هو تعطيل متعمّد لخطة التعافي المالي والاقتصادي التي من دونها لا مفاوضات مع صندوق النقد الدولي ولا مع غيره، وبالتالي، لا مساعدات ولا اصلاحات بل مزيد من الاهتراء للدولة وتعميق للانهيار، وهذا في ذاته جريمة لا تغتفر بحق شعب يعاني كل يوم من جراء أزمات متوارثة».
وأضاف في إشارة غير مباشرة أيضاً إلى كل من الحريري وجنبلاط وجعجع وفرنجية «ان المعطّلين للحوار والرافضين له يعرفون أنفسهم جيداً ويعرفهم اللبنانيون، ويتحملون مسؤولية خسارة الناس أموالهم وخسارة الدولة مواردها، كما يتحملون مسؤولية عجز كل مواطن ومواطنة عن تأمين لقمة العيش والحماية الصحية وضمان الشيخوخة وتوفير التعليم».
وفي حين أعلن أنه «ليس هو من يتراجع امام التحديات»، أكد أنه «لن يألو جهداً في سبيل معاودة الحوار والاعداد لادارته بحسب جدول المواضيع التي حددها».
وجاء بيان رئيس الجمهورية فيما كان «خميس الغضب» الذي دعا إليه قطاع النقل البري ولاقاه الاتحاد العمالي العام، ينجح في شلّ البلاد، أولاً بفعل امتناع قطاعات واسعة (المصارف والمدارس ومؤسسات خاصة) عن العمل تلقائياً خشية إشكالاتٍ ترافق يوم الاحتجاجات وبفعل صعوبات الوصول إلى مراكزهم، وثانياً نتيجة إقفال الطرق الذي أُنجز ولكنه لم «يصمد» حتى الخامسة عصراً كما كان مقرَّراً، وسط عدم تسجيل مظاهر استجابة شعبية على شكل تجمعاتٍ، بحيث بدا التحرك مُهنْدَساً لتوجيه رسائل في أكثر من اتجاه، رغم أحقية العناوين المعيشية التي رفعها السائقون في ظلّ عدم وفاء الحكومة بوعود بتوفير محروقات لهم بأسعار خاصة تساعدهم على الاستمرار، وتَحَوّل ما وُصف بأنه «بداية الغضب» فتيلاً قابلاً للاسثتمار، في الأمن والسياسة، لاحقاً فوق «برميل البارود» اللبناني.
ولم يمرّ هذا التحرك من دون اتهاماتٍ من أطراف سياسية ومن ناشطين في ثورة 17 أكتوبر 2019 لـ «عرّابيه»، الذين يُستدلّ عليهم من «اللون السياسي» للنقابات المشاركة وقيادييها المحسوبين على بري، بأن ما جرى أريد منه «مخاطبة» عون خصوصاً بالشارع ربْطاً بالمكاسرة بينه وبين رئيس البرلمان، وبرفْع رئيس الجمهورية سقف المواجهة رافضاً توقيع موافقات استثنائية تتصل بمساعدات اجتماعية للموظفين أو رواتب لمتعاقدين ما دامت هناك حكومة مكتملة المواصفات ولكن ممنوعة من الاجتماع، وصولاً لاعتبار البعض أن «السلطة تتظاهر ضدّ السلطة» التي يقع على عاتقها معالجة مواضيع الشكوى التي جرى التعبير عنها.
وكل ذلك يجري فيما تَحَلُّل الدولة ومؤسساتها يتسارع، وسط تَعَمُّق مظاهر فقدان السلطة سيطرتها بالكامل على أي قدرة على تصحيح مسار اقتياد البلاد إلى ما يُخشى أن يكون «هلاكاً» سياسياً – ديبلوماسياً فوق «أشلاء» الواقع المالي، في ضوء تَعاظُم المنحى التخريبي لعلاقات لبنان مع دول الخليج العربي، وفق ما عبّر عنه اللقاء الذي أقيم في الضاحية الجنوبية لبيروت بعنوان «لقاء المعارضة في الجزيرة العربية» وأكمل الحملة المعادية للمملكة العربية السعودية، سواء في أصل انعقاده، أو في المواقف التي أطلقت خلاله وبينها لرئيس المجلس التنفيذي في «حزب الله» هاشم صفي الدين الذي هاجم بعنف السعودية والولايات المتحدة وحذّر «صيصان الداخل».
ولم يكن عابراً الموقف الناري الذي أطلقه السفير السعودي في بيروت وليد بخاري ضد «حزب الله» عبر حسابه على «تويتر»، إذ كتب «القفز فوق آلام وآمال الشعب اللبناني الشقيق، ما هو إلا تغاض عن الحقيقة الساطعة أمام أعين اللبنانيين أنفسهم، وإنكار مقصود لحقيقة مؤلمة سببها لوثة استعلاء حزب الله الإرهابي على منطق الدّولة وفشل خياراته السياسية».