التخطي إلى المحتوى

الحَرِيْرِيّ

(حَيَاتُهُ، وَرَسَائِلُهُ، وَمَقَامَاتُه)

 

الحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا، والصلاة على مَن أُوتي جوامع الكلم، خير مَن نطق بالضاد، أفصح العرب لغة، وأعظمهم بيانًا وحجة، سيدنا محمد وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

وبعد:

فهذه جملة سطور حاولت فيها جمع وتلخيص حياة وأعمال واحد من أبرز كُتَّاب العصر العباسي، وأحد أضلُع هرم فن المقامات؛ القاسم بن علي الحريري.

 

وقد قسَّمت مادة المقالة على ثلاثة محاور رئيسة:

أولًا: حياته[1].

هو أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريريّ البصريّ، صاحب المقامات؛ كان أحد أئمة عصره، وكانت ولادته بالبصرة سنة 446هـ، ووفاته سنة 516هـ بها أيضًا. والحريري نسبة إلى الحرير، عمله أو بيعه، وكان ميسور الحال.

 

وللحريري أعمال حِسان، منها: “دُرَّة الغوَّاص في أوهام الخواص”[2]، ومنها “ملحة الأعراب في صناعة الإعراب”[3] المنظومة في النحو، وله شعر كثير غير الذي في المقامات[4].

 

وقد رُزِق الحظوة التامة في عمل المقامات، واشتملت على شيء كثير من كلام العرب: من لغاتها، وأمثالها، ورموز أسرار كلامها، ومَن عرفها حق معرفتها استدل بها على فضل هذا الرجل وكثرة اطّلاعه وغزارة مادته، وكان سبب وضعه لها ما حاكاه ولده: كان أبي جالسًا في مسجده ببني حرام فدخل شيخ عليه أهبة السفر رثّ (بالي) الحال فصيح الكلام حسن العبارة، فسألته الجماعة: من أين الشيخ؟ فقال: من سَرُوج (مدينة تركية)، فاستخبروه عن كُنيته، فقال: أبو زيد. فعمل أبي المقامةَ المعروفة بالحرامية، وهي الثامنة والأربعون، وعزاها إلى أبي زيد المذكور، واشتُهِرَت فبلغ خبرها الوزير شرف الدين أبا نصر القاشاني وزير الإمام المسترشد بالله، فلمّا وقف عليها أعجبته، وأشار على والدي أن يضمَّ إليها غيرها، فأتمّها خمسين مقامة.. وقد اعتنى بمقاماته خلقٌ كثير، فمنهم مَن طوَّل ومنهم مَن اختصر. وقد روى ابن خلّكان حكايات غير هذه.

 

وأمّا تسمية الرّاوي بالحارث بن همام فإنما عنى به نفسه، هكذا وقفت عليه في بعض شروحات المقامات، وهو مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: “كلّكم حارث، وكلّكم همام”، فالحارث: الكاسب، والهمام: الكثير الاهتمام، وما من شخص إلا وهو حارث وهمام؛ لأن كل واحد كاسب ومهتم بأموره.

 

وكان الحريري طريفًا، حاد الذكاء، مولعًا بنتف لحيته عند التفكير، ويُحكى أنه كان دميمًا قبيح المنظر، ومنه أن شخصًا غريبًا جاء يزوره فلمّا استزرى (استقبح) شكله، ففهم الحريري ذلك منه فأنشده:

 

ثانيًا: رسائله[5]

وضع الحريري رسائل عدة، لكن المُطالِع لترجمته وأعماله لا يقف إلا على رسالتين اثنتين فقط، أما البقية فقد ذهب الزمان بهم، وإن مَن يرجع إلى ما اقتبسه العماد الأصبهاني في “خريدته” وياقوت في “معجمه” من رسائله يجد ظاهرة التعقيد واضحة فيهما، وقد رويا له جميعًا الرسالتين الغريبتين.

 

وقد بناهما جميعًا على حرف واحد؛ أما الأولى فبناها على حرف السين، ولذلك سُمِّيَت بالرسالة السينية؛ وهي على لسان بعض أصدقائه يعاتب صديقًا له أخَلَّ به في دعوة دعا غيرَه إليها، ويستهلُّها على هذا النمط:

 

“باسمِ القدُّوسِ أستفتح، وبإسعاده أستنجح، سجية سيدنا سيفِ السُّلطانِ… السيد النفيس سيد الرؤساء حُرست نفسه، واستنارت شمسه، وبَسَقَ غرسُه، واتَّسَق أُنسُه، استمالةُ الجليس، ومساهمةُ الأنيس، ومواساةُ السحيق والنسيب، ومساعدة الكسير والسليب، والسيادة تستدعي استدامة السُّنن، والاحتفاظ بالرسم الحَسَن.. وحسبُنا السلام وسلامه على رسول الإسلام”.

 

وأما الثانية فبناها على حرف الشين، ولذلك سُمِّيَت بالرسالة الشينية، وقد كتبها إلى طلحة بن محمد النّعماني الشاعر لمّا قصده في البصرة يمدحه ويشكره ويأسف على فراقه:

 

“شغفي بالشيخ شمس الشعراء، رِيشَ معاشه، وفشا رياشه[6]، وأشرق شهابه، واعشوشبت شعابه، يشاكل شغفي المنتشي بالنشوة، والمرتشي بالرشوة، والشادن بشرخ الشباب، والعطشان بشَبِم الشراب، وشكري لتجشّمه ومشقته، وشواهد شفقته، يشابه شكر الناشد للمنشد، والمترشّد للمرشد، والمستبشر للمبشّر..”.

 

ولا يخفى على المتأمل لمُستَهَلِّ هاتين الرسالتين ظواهر التعقيد، والجناس، والتكلُّف والتَّصنُّع، والسجع، واعتماده على الغريب الوحشي من المفردات. ولعلَّ هذا التعقيد المُتعَمَّد الذي لا نستسيغه في عصرنا كان هو الوجه الأدبي والفنّي السائد والمرغوب في عصر الحريري، وحتى قبله منذ ظهور أبي العلاء المعرّي (ت 449هـ)، وقد استمر بعده فترة من الزمن على يد العماد الأصبهاني (ت 597هـ) وغيره.

 

ثالثًا: مقاماته

للحريري -كما تقدّم- خمسون مقامة جمعها في كتاب يحمل ذات العنوان. والمقامة فن عربي مشرقي النشأة على يد ابن دُرَيد الأزدي (ت 321هـ)، والنضج على يد بديع الزمان الهمذاني (ت 398هـ)، وتعني المجلس أو الجماعة ثم أُطلِقَت مجازًا على ما يدور في المجلس من حديث. فهي “حكاية قصيرة أنيقة الأسلوب تشتمل على عِظَة أو مِلحة.. وهي قطعة أدبية يُقصَد بها الفنّ، وتجمع شوارد اللغة ونوادر التركيب في أسلوب مسجوع أنيق الوَشي يعجب أكثر مما يؤثر، ويلذ أكثر مما يفيد..” [7].

 

ومحور مقامات الحريري “يدور على الاحتيال بالطرق المتنوعة، وقد انتشرت في زمنه وعُرفت بالكُدية أو الاستعطاء[8]، ونراه قد جرى فيها جريًا حديثًا بين ديني وخُلُقي كما نلمس ذلك في المقامة الصّنعانية، أو شكلًا أدبيًّا فُكاهيًّا كما في المقامة القطيعية والنّحْويّة ضمّنها إلقاء أبي زيد على جُلسائه مسائل مُلغزة في النحو، وذهب أحيانًا مذهبًا مُجُونيًّا[9] كما في المقامة الكَرجية وقد ضمّنها الشتاء وطلبه ثيابًا يكتسي بها، وآخر مقاماته المقامة البصرية ضمَّنها توبة أبي زيد ولُزُومه المسجد”[10].

 

نسب الحريريُّ حوالي ثلاثين من مقاماته إلى مدنٍ مشهورة، منها: صنعاء، الكوفة، الإسكندرية، دمشق، مكة، سَمَرقند، عمان. وأما العشرون البقية فتحمل أسماء مختلفة، يدل اسم كل مقامة – غالبًا- على موضوعها.

 

ولم تَحمِل مقامتان نفس الاسم إلا المقامة الحادية والثلاثون (31) والمقامة الخامسة والأربعون (45) فهما بنفس الاسم: “المقامة الرَّملية”. أما الأولى منهما فتتضمّن وعظ أبي زيد للحُجَّاج في حال مَسِيرهم وحجّه في ذلك العام ماشيًا، وأما الثانية فتتضمن مخاصمة أبي زيد مع زوجه.


[1] انظر: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان – أبو العباس شمس الدين أحمد بن خلكان – تحقيق: الدكتور إحسان عباس – دار صادر، بيروت 1398هـ/1978م- المجلد الرابع ص63-69.

[2] وهو كتاب في التصحيفات اللُّغَوِيّة، نشرته دار الجيل (بيروت) بتحقيق عبد الحفيظ فرغلي، سنة 1417هـ/1996م بعنوان “دُرّةُ الغوّاص، شرحها وحواشيها وتكملتها” في 968 صفحة.

[3] وهي أبيات منظومة في علم النحو، مطبوعات أسعد الحبال وأولاده (جدة) بلا تاريخ أو تحقيق، في 48 صفحة.

[4] لم أقف عليه في مُصَنَّف مستقل منشور.

[5] انظر: الفن ومذاهبه في النثر العربي – الدكتور شوقي ضيف – دار المعارف، القاهرة – الطبعة الثالثة 1960م – ص294-296.

[6] الرياش: الثياب الفاخرة.

[7] تاريخ الأدب العربي – أحمد حسن الزيات – دار الصحوة – الطبعة الأولى 1438هـ/2018م – ص386.

[8] ما يعرفه العوامّ بالشِّحاذة.

[9] المجون: خلط الجدّ بالهزل، أو العبث وقلة الحياء (المعجم الوسيط ص855).

[10] مقامات الحريري – دار بيروت، بيروت 1398هـ/1978م – ص6.