التخطي إلى المحتوى

 

لا تقتصر الـ «سوريالية» التي تَحْكُم الوضع اللبناني والتي تَعَمَّقتْ مَظاهرُها في العاميْن الماضييْن على إبقاء استحقاقٍ بحجم الانتخابات النيابية (15 مايو المقبل) أسيرَ عمليةِ تشكيكٍ حتى ربع الساعة الأخير بما إذا كانت الصناديق ستُفتح بمواعيدها أم لا، بعدما تحوّل حتى ما يُفترض أنه حجر الزاوية في تداوُل السلطة و«دوران» النظام البرلماني محطةً يتهيّبها كثيرون في ضوء انفتاحها على احتمالاتٍ مخيفة بأن تتقاطع فيها أزماتٌ دستوريةٌ يُخشى أن تكون بمثابة «رصاصة الرحمة» على واقعٍ جعل البلاد منذ 2020 في وضعية… الموت البطيء.

وثمة مَن تعاطى في بيروت مع «البطاقة الصفراء» التي رَفعَها رئيس الوزراء نجيب ميقاتي بوجه شركائه في الحكومة كما القوى السياسية الأخرى محذّراً «ما فينا نكمّل هيك» وطارحاً وضْع حكومته أمام «امتحانِ الثقة» فإما تجديدها (من البرلمان) وتالياً المضيّ في «المَهمة الشاقة» في «قارب وقلب واحد» وإما سحبها «وليتحمّل الجميع مسؤولياتهم»، على أنها رسالة مزودجة:

 

أولاً حيال ما بقي من مرحلة فاصلة عن 15 مايو ورفْض «التضحية» بآخِر فرصة لانطلاق مسار الإصلاحات الشَرطية لبلوغ اتفاق مع صندوق النقد الدولي (وصلت بعثته أمس الى بيروت لاستكمال المناقشات حول خطة النهوض) بخلفياتٍ «شعبوية انتخابية» على غرار ما رافق مناقشة اللجان النيابية صيغة الكابيتول كونترول وإعادة كرتها الى ملعب مجلس الوزراء الذي عاود بحثها لإنجازها معدَّلة في جلسته أمس.

وثانياً برسْم ما بعد الانتخابات، حيث تشير بعض الدوائر إلى أن ميقاتي الذي كان تلقى ضماناتٍ قبل تكليفه تشكيل الحكومة الحالية بأنه سيعود رئيساً في أعقاب الاستحقاق النيابي لاستكمال مسار النهوض وبدء تبلْور ثماره، وجّه بـ «ضربة الثقة»، التي عكست فقدان الثقة المتنامي بين مكوّنات الحكومة قبل غيرها، إنذاراً للائتلاف الحاكم، بأنه لن يقبل بأن يكون «رَجُل» ما بعد الانتخابات ما لم يكن قطار الإصلاحات وُضع على السكة وأنه لن يوافق على قيادة «مهمة انتحارية».

وبدأت بعض الكواليس في بيروت تشهد أسئلة مخيفة عن اليوم التالي بعد 15 مايو، بحال حصلت الانتخابات ولم يُطِحْ بها «الصفيح المعيشي» الساخن بـ «هزّةٍ» يشكّلها قرارٌ إصلاحي أو عاصفة غير متوقَّعة من داخل أو خارج، وسط اقتناعٍ راسخ بأن البلاد مقبلة على أزمتين مرشحّتين للتداخل زمنياً بما يُنْذر بتحوّلهما «زلزالاً»:

– الأولى تشكيل الحكومة، الذي لطالما تَطلّب أشهراً من المناكفات والصراعات (حكومة ميقاتي الحالية وُلدت بعد 13 شهراً من المطاحنة السياسية)، علماً أنه هذه المرة سيأتي موصولاً بنتائج انتخاباتٍ لن يكون ممكناً التعبير عنها في توازنات الحكومة العتيدة، وإذا حصل ذلك فسيرتّب على الأرجح أثماناً باهظة على الواقع اللبناني من زاوية «قراءة معناه» خارجياً.

ففي حال أفضت الانتخابات لخسارة «حزب الله» وحلفائه الغالبية البرلمانية، فإن هذا الأمر لن «يُسمح» بأن يُترجم بتأليف حكومة خارج منطق «الديموقراطية التوافقية» التي رَسمها الحزب مسبقاً، ومكرّساً أن لا مكان للعبة الأكثرية والأقلية على مستوى الحُكْم والتي كان طوّعها مراراً عبر إحياء «الثلث المعطّل» بمعناه السياسي والمذهبي، قبل أن يفوز في برلمان 2018.

وإذ تدعو هذه الدوائر إلى رصْد الواقع العراقي بعد الانتخابات لتأكيد أن إيران لن تسلّم بأي سحْب للبساط من تحت أقدام حلفائها في لبنان بـ «القوة الناعمة» (صناديق الاقتراع)، هذا من دون إغفال أن وضعيّتها في «بلاد الأرز» أكثر رسوخاً في ضوء إمساك «حزب الله» بغالبية «مفاتيح التحكّم» باللعبة الداخلية، فإنها تعتبر أن هذا البُعد إلى جانب «شد الحبال» التقليدي حول الحصص والأوزان الذي يرافق استيلاد كل حكومة، بحال استعيدت نغمة الحكومة التوافقية، يعني أن البلاد ستكون أمام مسارٍ بالغ التعقيد ومدجّج بالألغام.

أما في حال عاود الحزب وحلفاؤه الفوز بالغالبية سواء بالنصف زائد واحد أو ببقائهم يتمتعون بأكبر كتلة ائتلافية بوجه خصوم متفرّقين ولا يشكلون أكثرية واحدة، فإن ذلك قد يشكّل آخِر «مسمار» في الآمال المعقودة على بدء الحدّ من تمكين نفوذه داخلياً، ولا سيما في ضوء تعاطي الخارج وبينه دول الخليج العربي مع الانتخابات النيابية على أنها مدخل الإصلاح السياسي بمعناه المتصل بالتموْضع الاستراتيجي للبنان، والذي يُعتبر محورياً في «العودة السياسية» لهذه الدول لرعاية تسريع خروج «بلاد الأرز» من الحفرة المالية السحيقة.

– والأزمة الثانية هي الانتخابات الرئاسية التي تدخل البلاد مدار المهلة الدستورية لإجرائها في 31 أغسطس المقبل (قبل شهرين من انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون)، والتي تحوّل استحقاق 15 مايو «جولة تمهيدية» ضمنية لها ينخرط فيها على هذا الأساس «المرشحون الرئيسيون» الموارنة (رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل ورئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع وزعيم المردة سليمان فرنجية خصوصاً).

وفي حين ستُخاض «معركة» تأليف حكومة ما بعد الانتخابات النيابية بالتأكيد بحسابات «رئاسيةِ الخريف» خصوصاً في ظل إمكان ألّا تحصل في موعدها الدستوري على غرار ما شهدته البلاد مع آخر رئيسيْن سلّما توالياً إلى فراغ (إميل لحود وميشال سليمان) بما يجعل الصراع «طاحناً» على الأحجام والتوازنات حكومياً، فإن الخشية الأكبر أن يتمدّد «الفراغ الحكومي» حتى انتهاء الولاية الرئاسية، بحيث تكون البلاد أمام سابقة أن تتحوّل حكومة تصريف الأعمال (أي الحكومة الحالية لميقاتي) حكومةً رئاسية (تنتقل إليها صلاحيات الرئاسة الأولى)، وهو ما يُخشى أن يفتح الباب أمام إما مطالباتٍ وبفتاوى دستورية ببقاء الرئيس في القصر حتى انتخاب الخلف، وإما أقلّه جعْل هذا المعطى ورقة ضغط تُستخدم في المكاسرة الرئاسية لتقوية حظوظ باسيل.

وفي ضوء هاتين «العاصفتيْن» اللتين تكمنان للوضع اللبناني بعد 15 مايو، فإن المخاوف تتطاير إزاء قدرة البلاد على «الصمود» في آخر الحبْل الذي يقيها حتى الساعة الارتطام المميت، في ضوء المعطيات عن أن مصرف لبنان، الذي بات حاكمه مكبّلاً بملاحقات قضائية في الخارج والداخل، لن يكون قادراً على إدارة الانهيار وفرْملة السقوط المريع حتى ما بعد إتمام تأليف حكومة جديدة وانتخاب رئيسٍ تطلّب في المرة الأخيرة انتظاراً لنحو 30 شهراً.

ومن هنا يمكن تفسير استعجال ميقاتي إنجاز اتفاق مع صندوق النقد الدولي قبل دخول البلاد في نفقٍ جديد لا يُعرف آخره، رغم اقتناع أوساط عدة بأن مثل هذا الاتفاق شبه مستحيل في الفترة الفاصلة عن الانتخابات، وأن أي اتفاق لن يتم بعدها مع حكومة تصريف أعمال، هذا دون إغفال الانطباع بأن حجم الانهيار الشامل بات حتى أكبر من أن ينتشل لبنان منه ضخّ 3 أو 4 مليارات دولار لن تأتي إلا على دفعات ومشروطة بالمضي بالإصلاحات، في حين أن «الطريق السريع» للإنقاذ، بالتوازي مع الإصلاحات التقنية، يبقى في استعادة «خيمة» الاحتضان العربي والخليجي ومعالجة المرتكزات السياسية لفقدان لبنان «حزام الأمان» الخارجي.

وكرر ميقاتي أمام مجلس الوزراء أمس أنه «منذ تسلمنا المسؤولية ونحن مدركون حجم التحديات التي تواجهنا، وأمامنا مسؤوليات جسام في وقف الانهيار الحاصل في البلد ومعالجة ما أمكن من ملفات ووضع الملفات الأخرى على سكة الحل»، معلناً «من هنا كانت صرختي بالأمس حول وجوب وقف المناكفات»، ولافتاً إلى «أن المجتمع الدولي كله مساند لنا ويدعم الحكومة بكل معنى الكلمة، وهذا الأمر لمستُه ايضاً خلال زيارتي لقطر خلال لقاءاتي مع أمير قطر ورئيس الحكومة ووزراء خارجية قطر وسلطنة عمان والكويت والأردن».

وأكد «ندائي إلى الجميع بتحمُّل المسؤولية ونحن في انتظار إنجاز الاتفاق مع صندوق النقد».
https://www.alraimedia.com/article/1583250/خارجيات/لبنان-على-كف-عاصفتين-الأسوأ-لم-يأت-بعد