التخطي إلى المحتوى

كتب محمد علي مقلد في “نداء الوطن”:

الاعتكاف والاستنكاف والورقة البيضاء أسلحة يشهرها الناخبون ضد صناديق الاقتراع حين لا يأنسون لمجريات المعركة الانتخابية، إما اعتراضاً على المرشحين أو على القانون أو على الأجواء السياسية العامة، إما احتجاجاً حزبياً كحال المقاطعة المسيحية في أول دورة انتخابية بعد الطائف وعزوف سعد الحريري في دورة 2022.

ما يعنينا هنا هو الاحتجاجات الفردية لا حرد حزب أو طائفة. أي ما يتوافق عليه أفراد، بتنسيق في ما بينهم أو من دون تنسيق، وهذا في الأعم الأغلب من الحالات، موقف مبني على حدس مشترك أو إحباط عام أو يأس من النتائج المتوقعة، وهو لا يحتاج إلى حملة ولا إلى ترويج ولا إلى أي جهد يبذل.

يكفي المستنكف ألا يفعل شيئاً، ألا ينفعل كالمتحمسين للزعماء ومحادلهم أو للتغييريين ولوائحهم، فيأتيه الاستنكاف إلى مقعده. حتى خيار الورقة البيضاء لا معنى له في القانون النافذ، لأن الناخب يعطى ورقة غير بيضاء مطبوعة بالألوان والصور وعليها أسماء كل المرشحين، وما عليه إذا كان مستنكفاً، إلا أن يضعها كما لو أنه يرميها في صندوقة القمامة.

المستنكفون، في معظمهم، من أنصار التغيير وكثيرون منهم ينتمون إلى عالم الثورة وقيمها، لكنهم لا يأخذون بقول قائل “الجود من الموجود”، أو ” من حضر السوق باع واشترى” بل بقول المتنبي، “أريد من زمني ذا أن يبلغني ….. ما ليس يبلغه من نفسه الزمن”. من هذه الزاوية يحكم على خطابهم بأنه خشبي، لأنه يغرف من معين الطوبى، ويغلّب الأفكار النظرية على الواقع، ومراجعه في الكتب أو في الأحلام لا في تفاصيل الصراعات والمآسي اليومية.

دورة 2022 الانتخابية حدث فريد في تاريخ لبنان. هي تحصل بعد ثورة سلمية تحت سقف الدستور، وهي بمثابة استفتاء، على الشعب أن يقرر فيه إما التجديد لتحالف ميليشيوي مافيوي دمر الوطن والدولة إما استكمال مهام الثورة بهدف إعادة تشكيل السلطة السياسية.

صحيح أن الأوضاع السياسية لا تدعو في ظاهرها إلى التفاؤل، وأن لبنان يعيش حالة حرب لم تنقطع إلا لسنوات منذ خمسين عاماً، وأن القانون الانتخابي هو الأسوأ في تاريخ الديمقراطيات في العالم، وأن التحالف الحاكم وضع البلاد على حافة الجوع والدمار والدولة على حافة التفكك، وهذا كله يبرر الاستنكاف، لكن علينا أن نرى النصف الملآن من الكأس لا نصفه الفارغ فحسب.

لأول مرة لا يكون التنافس بين متشابهين ممن يحكمون بالتناوب والتعاون والتحاصص، ويمثلون على الشعب بدل أن يمثلوه في البرلمان، بل بين المتسلطين على مقادير البلاد من جهة، وبين معارضات متنوعة قدمت نفسها بخطاب جديد لم تألفه المعارك الانتخابية منذ الاستقلال، من جهة أخرى.

ما من مرة شهدت فيها الحياة السياسية سجالاً فضائحياً بين أهل الحكم قبل الانتخابات ثم تعاوناً وطيداً بينهم خلالها. وما من مرة برزت أسماء من قوى الثورة والتغيير كالتي برزت في كل لبنان من شماله إلى جنوبه وفي كل أقضية الجبل والبقاع، ولا يضير هذه الأسماء تعددها وتنوعها ولا تنافسها فيما بينها على تمثيل الثورة وجيل المستقبل.

وما من مرة أثبتت سياسة الاستنكاف فعاليتها، لا في التجارب اليسارية القديمة مع الورقة البيضاء ولا في اعتكافٍ أو إحجامٍ أو امتناعٍ عن التصويت، ولا في مقاطعة مسيحية بعد الطائف، ولا في ما سيكون عليه، على ما نظن، مصير الدعوة الحريرية إلى العزوف.

إن الثورة تدعو صانعيها ومؤيديها والمتضامنين معها إلى المشاركة في الاقتراع والتصويت ضد التحالف الحاكم ولمصلحة أي فريق من قوى المعارضة ولوائحها الكثيرة والمتنوعة والمتعددة على امتداد الوطن.

هذه ليست دعوة فحسب، بل ينبغي أن تكون نوعاً من النداء الداخلي يدفع كلاً منا إلى القيام بواجبه دفاعاً عن الوطن والدولة والدستور وعن مستقبل الأجيال الشابة من اللبنانيين.