المزيد من المشاركات
نوح عليه السلام (6)
أشرتُ في المقال السابق إلى الموقف المعجز الذي وقفه نوح عليه السلام من قومه عندما قال لهم: ﴿ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ ﴾ [يونس: 71]، وقد وقف مثل هذا المقام النبيون بعد نوح عليه السلام؛ كما ذكر الله تبارك وتعالى عن هود أنه قال لقومه وقد تحزَّبوا عليه وتجمَّعوا وأصرُّوا على الكفر والعناد: يا قوم ﴿ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [هود: 54 – 56]، وسأنبِّه إن شاء الله تعالى على مثل هذه المقامات في مواقعها من قصص الأنبياء.
وقد بيَّن الله تبارك وتعالى في سورة نوح طُرق دعوته التي ينبغي لكل داعٍ إلى الله عز وجل أن يتأسَّى به فيها، وأن يحرص على سلوكها، ولو أن الدعاة من المسلمين سلكوا الطرق التي سلكها نوح عليه السلام في الدعوة إلى الله لامتلأت الأرضُ بالإسلام، ولم يبقَ في الأرض إلا دين الله الذي بعث به حبيبَه محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ فقد ذكر الله تبارك وتعالى عن نوح عليه السلام أنه كان يدعو قومه ليلًا ونهارًا، وسرًّا وجهرًا حيث يقول عز وجل: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾ [نوح: 5 – 14]، فنوح عليه السلام كان يقضي سحابةَ نهاره وسحابة ليله في الدعوة إلى الله عز وجل، وفي قوله: ﴿ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ ﴾ بيانٌ جَلِيٌّ لأهداف دعوة الأنبياء والمرسلين، فهي دعوة العباد لمغفرة الله عز وجل ولرضوان الله عليهم، وفي هذا النص الكريم بيان لأساليب الدعوة من أبٍ يَكبُر الأنبياء، وأول أولي العزم من المرسلين نوح عليه السلام، وقد شرح نوح عليه السلام في هذا المقام آثارَ الاستغفار، وبيَّن أن الاستغفار يجلب للمستغفرين خيرَ الدنيا والآخرة؛ فهو من أعظم أسباب نزول الأمطار الصالحة للعباد والبلاد، وهو من أعظم أسباب رغد العيش ووفرة الأموال والأولاد، وزينة الحياة الدنيا وتيسير وجود المزارع والجنات وجريان الأنهار والمتاع الحسن ومنح العباد صحة ونشاطًا.
وقد ذكر الله تبارك وتعالى أن هودًا ومحمدًا صلى الله عليه وسلم نبَّها إلى هذه الآثار للاستغفار في قوله تعالى في دعوة محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴾ [هود: 1 – 3]، وقال تعالى عن هود عليه السلام: ﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 52] وفي قوله تعالى في هذا المقام من سورة نوح: ﴿ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾ [نوح: 13، 14]، أي: ما لكم لا تخافون عظمة الله ولا تأملون ما عند الله؟! ﴿ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾، أي: خلقًا من بعد خلق في ظلماتٍ ثلاثٍ؛ إذ كنتم أولًا نطفة، ثم صرتم علقة، ثم مضغة، ثم خلق المضغة عظامًا، ثم كسا العظام لحمًا، ثم أنشأكم خلقًا آخر ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 14].
وقد فسَّر بعض الجاهلين الغاوين في عصرنا الأطوار التي ذكرها نوح عليه السلام في قوله: ﴿ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾ [نوح: 14]، بأنها دليل على صحَّة نظرية داروين في التطور والارتقاء، وأن الإنسان كان في أول وجوده حيوانًا بحريًّا كالسمك، ثم حيوانًا بريًّا كالقرود والحمير، ثم تطوَّر وارتقى حتى صار على هذه الحال المشاهدة؛ وفي ذلك يقول بعض هؤلاء الغواة الضالين: “لقد فضح الجنين القصَّة، يعني: قصة التطور والارتقاء وأطوار خلق الإنسان؛ فإنَّ الجنين عندما يبدأ تكوينه في بطن أمه يكون كالسمكة تمامًا له زعانف وخياشيم، ثم يغطَّى جسمه بالشعر كالقرود تمامًا، ثم ينحسر الشعر عن مواضع من جسمه كالإنسان تمامًا، لقد فضح الجنين القصة كما فضح مبضع الجراح القصة، فإن مبضع الجراح وهو يعمل خلف الأذن البشرية اكتشف عضلات ميتة هي التي كانت تحرك آذان أجدادنا الحمير”.
وهذا الذي قاله هؤلاء الدهريون محض اختلاق في جملته وتفصيله، وقد ذكرت في قصة خلق آدم أسباب فساد مقالة هؤلاء.
وإلى فصل قادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رابط المصدر